لم تكن الولاية الحكومية الحالية مجرد تجربة عادية في التدبير العمومي، بل تحولت إلى نموذج خاص في تاريخ السياسة الاقتصادية بالمغرب.
فمنذ بدايتها، ارتفعت شعارات كبرى حول الإصلاح، تعزيز الشفافية، وحماية القدرة الشرائية، غير أن واقع السياسات والقرارات كشف مسارًا مختلفًا، عنوانه استمرار الامتيازات الموجهة نحو فئة محدودة من الفاعلين الاقتصاديين.
أولى هذه المحطات برزت في مشاريع تحلية المياه، التي اعتُبرت أوراشًا استراتيجية لمستقبل الأمن المائي. ورغم ما تحمله من أهمية وطنية، فقد رافقتها تعديلات ضريبية وجمركية واسعة، استفادت منها بالأساس الشركات الكبرى.
هذه الإجراءات أثارت نقاشًا حول مدى عدالة توزيع الامتيازات، وحول ما إذا كانت المقاربة الحكومية تستهدف فعلًا خدمة المصلحة العامة، أم تعيد إنتاج منطق التفضيل الاقتصادي لفائدة الكبار.
في سوق المحروقات، ظلت الأزمة أكثر وضوحًا. فبينما واصل المواطن المغربي مواجهة أعباء الغلاء، سجلت شركات التوزيع أرباحًا استثنائية.
ورغم الخطاب الحكومي المتكرر عن “الظرفية الدولية”، فإن غياب تدخل فعّال لضبط الأسعار عمّق الانطباع بأن المستهلك تُرك وحيدًا أمام منطق السوق المنفلت.
هذه المفارقة أظهرت محدودية الإرادة السياسية في إقرار آليات ردع حقيقية، وتركت السؤال معلقًا حول جدوى المؤسسات القائمة مثل مجلس المنافسة، التي كان يُنتظر منها أن توازن المشهد.
أما المجموعات الاستثمارية الكبرى، فقد شهدت توسعًا لافتًا خلال هذه الفترة. مشاريع التعدين في إفريقيا، عقود الغاز الطبيعي، الاستثمارات في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، ومشاريع صناعية كبرى في مجال البطاريات الكهربائية… كلها مبادرات أعطت الانطباع بأن الاقتصاد الوطني يتقدم، لكنها في المقابل وُصفت بأنها تكرّس تمركز الثروة في يد فاعلين معدودين.
فالتسهيلات العقارية والضريبية التي رافقت هذه الاستثمارات طرحت سؤالًا جوهريًا حول التوازن: إلى أي مدى يوازي ما استفاد منه هؤلاء الفاعلون ما عاد على عموم المواطنين من منافع؟
ولم يكن هذا التداخل حكرًا على رئيس الحكومة فحسب، بل انسحب أيضًا على وزراء بارزين في فريقه. وزارة الثقافة والشباب والتواصل قدّمت مثالًا مصغرًا، حيث ارتبطت صفقات وبرامج بشركات محدودة، في وقت كان يُفترض فيه أن تكون هذه القطاعات فضاءً مفتوحًا أمام المبادرة الشابة والإبداع الحر.
هذا الواقع جعل الانتقادات تتصاعد بشأن ضعف الشفافية، وغياب التنوع في الاستفادة من المال العمومي.
إن ما يميز هذه الولاية هو المفارقة الصارخة بين الخطاب السياسي والممارسة الاقتصادية. فالحكومة رفعت شعار الإصلاح الموعود، لكن الواقع أفرز استمرارًا لنفس المنطق القديم في توزيع الفرص والامتيازات، وإن بصيغة مؤسساتية أكثر تنظيمًا.
وبينما يُطلب من المواطن أن يصبر أمام كلفة المعيشة الثقيلة، يظل السؤال قائمًا: من المستفيد الفعلي من الإصلاحات؟
لقد كان الأمل أن تشكل هذه الولاية فرصة لإعادة الاعتبار للعدالة الاقتصادية وتعزيز ثقة المواطن في الدولة. لكن استمرار الامتيازات غير المتكافئة، وضعف دور المؤسسات الرقابية، جعلا الصورة تميل إلى كوننا أمام إعادة إنتاج لبنية قديمة بوجه جديد.
بنية تعطي الانطباع بأن الإصلاح أصبح واجهة، بينما الواقع يكرس تركيز الثروة والنفوذ في أيدي فاعلين محدودين.
ويبقى السؤال مفتوحًا أمام التاريخ وأمام الرأي العام: هل سيُسجَّل ما نعيشه كمرحلة إصلاحية شجاعة، أم كمرحلة رسخت معادلة جديدة عنوانها: القانون للجميع… لكن الامتيازات للأقوياء؟