لا يحتاج المتتبع للواقع المغربي إلى كثير من الجهد ليكتشف أن شيئا ما لا يسير على ما يُرام.
فعندما يجتمع رأس المال بالسلطة، وتُدار الدولة كأنها شركة مساهمة، يصبح المواطن مجرد رقم في دفتر خسائر لا أحد يرغب في مراجعته.
هكذا بدا المغرب خلال السنوات الخمس الماضية، تحت قيادة حكومة جاءت محمولة على وعود “الارتقاء”، فإذا بها تُغرق البلاد في أرقام صادمة، وسياسات تفوح منها رائحة الانفصال عن نبض الشارع.
لا يتعلق الأمر بعجز في الموارد أو قلة الإمكانيات.
فالأرقام المعلنة تكشف عن تدفقات مالية ضخمة، وديون تُقارب الـ70 مليار دولار، وأرقام فلكية تُضخ هنا وهناك.
ومع ذلك، لا يزال المواطن المغربي يكتشف أن الحصول على موعد طبي هو إنجاز، وأن المدرسة العمومية لم تعد قادرة على تعليم الحروف دون الحاجة إلى دعم خاص.
أما البطالة، فقد بلغت مستويات تعيدنا إلى مربعات ما قبل الإصلاح.
13,2% من الشباب خارج سوق الشغل، ومئات المقاولات تنهار بصمت، تاركة خلفها أحياءً كاملة تُغلق على اليأس أبوابها.
في بلد يُنتج السمك ويستورد الزيت، ويملك الفوسفاط ويستورد الحبوب، لم تعد مفردات “الاكتفاء” أو “السيادة الغذائية” سوى عناوين لأوراق العمل.
فالفلاح يعاني، والتاجر يئن، والعامل لا يجرؤ على التفكير في المستقبل.
مؤشرات التنمية لم تعد تُستخدم للتباهي، بل أصبحت مثل إشارات المرور… حمراء كلها.
التعليم في ذيل الترتيب العالمي، الصحة على حافة الانهيار، والبحث العلمي في إجازة مفتوحة.
وبينما تتصدر الزوايا والأضرحة قوائم الدعم العمومي، تظل المختبرات قاعات مهجورة إلا من الرطوبة.
أغرب ما يمكن رصده في هذه المرحلة هو قدرة الحكومة على تحويل التشريع إلى أداة للتشويش بدل الإصلاح.
بدل تجفيف منابع الفساد، جُفف قانون الإثراء غير المشروع، وبُرمجت قوانين تُقيّد الحق في الإضراب، وتُفرّغ العدالة من مضمونها.
أما المواطن، فقد تُرك لمواجهة “ساعة إضافية” لا يرى منها سوى مزيد من الإرهاق.
صحيح أن هناك حركة دائمة، ومهرجانات، ومشاريع، وخطط.
لكن من قال إن الحركة دليل حياة؟
فالأرقام لا تكذب: المغرب اليوم يحتل مراتب حرجة في كل ما يهم الإنسان.
ومع ذلك، يظل الخطاب الرسمي مهووسا بـ”الصورة” و”الاستثمار”، وكأن التنمية مجرّد عرض تسويقي.
والمثير أن الحكومة تضخ مليارات الدراهم استعدادًا لمونديال 2030، في وقت ينهار فيه الاقتصاد المحلي، وتُغلق المقاولات الواحدة تلو الأخرى.
مشهدٌ يجعل المواطن يسأل نفسه: هل نعيش زمن الدولة… أم زمن العرض؟
لن يكتب التاريخ عن هذه المرحلة بوصفها “عهد التنمية”.
فالمصطلحات، كما الأرقام، لها ذاكرة.
وما سيبقى عالقا هو هذا الشعور الجمعي بالخذلان، وتلك الهوة التي اتسعت بين حاكم يتكلم بلغة الموازنات، وشعب لا يفهم سوى لغة المعيشة.
في النهاية، قد تكون السياسة، في عهد المال، لعبة حسابات.
لكن الأوطان لا تُبنى بالميزانيات فقط… بل بثقة الناس.
وهذه، للأسف، أصبحت عملة نادرة في مغرب اليوم.
ولأن التاريخ لا يُكتب بالبلاغات ولا يُقاس بنسب النمو، بل يُسطره الإحساس الجماعي بالعدل والكرامة، فإن ما يعيشه المغاربة اليوم ليس أزمة مؤقتة، بل لحظة وعي.
وعيٌ بأن الخلل لم يكن يومًا في قلة الإمكانيات، بل في سوء ترتيب الأولويات.
وعيٌ بأن التنمية الحقيقية لا تُستورد ولا تُعرض في نشرات الأخبار، بل تُصنع مع الناس، وبهم، ولهم.
وحين تنقطع هذه السلسلة، لا تعود الدولة سوى ظلّ سلطة، ولا الحكومة سوى إدارة بلا روح.
قد تتغير الوجوه، لكن سؤال العدالة سيبقى معلقًا… إلى أن يتوقف الحكم عن الحديث من فوق، ويبدأ في الاستماع من تحت.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version