ليست الأزمة في الإدارة العمومية من حيث الأداء أو مستوى الخدمات فحسب، بل في تحول جوهري صامت يُصيب بنيتها السياسية ووظيفتها الأصلية.
لقد أصبحت كثير من المؤسسات، تدريجيًا، تُدار بمنطق الامتياز لا بمنطق الخدمة، تُخصّص لا تُعمّم، وتُراكم الولاء بدل أن تنتج العدالة.

محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أشار بوضوح، من خلال تدوينات نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى هذا التحول المقلق، حين وصف شعور فئات واسعة من المواطنين تجاه المؤسسات بأنه شعور بالغربة والإقصاء.
فالمرافق العمومية، كما يقول، لم تعد مرآة لهم ولا امتدادًا لوجودهم، بل باتت توزّع ثمارها على فئة ضيقة، وتغلق أبوابها أمام الأغلبية في صمت إداري قاتل.

وهنا مكمن الخطورة: أن تفرغ بعض المؤسسات من بعدها العمومي، وتتحول تدريجيًا إلى فضاء لتثبيت مواقع النفوذ، لا لتوزيع الإنصاف؛ وساحة لتدوير المصالح، لا لإنتاج الحلول.

النتيجة؟ أن تتحول الوظيفة العمومية إلى غطاء للترقي الاجتماعي للنخبة الإدارية والسياسية، بينما تبقى فئات واسعة من المجتمع خارج معادلة الأثر.
وأن يصبح الشأن العام ملفًا يُدار بتقنيات “الاستهداف”، لا وفق مبدأ الاستحقاق أو التوزيع العادل.

هذا الانزياح لا يُرى في الخطب، ولا يُذكر في البلاغات، لكنه يُلمس على الأرض:

في طريقة تمرير الصفقات

في أنماط التوظيف المقنع

في هندسة توزيع المشاريع

وفي منطق “الاختيار الإداري” بدل الحاجة المجتمعية

لقد فُرّغت الإدارة من بعدها التمثيلي، ومن معناها العمومي، لتتحول إلى واجهة ناعمة تُدار داخلها شبكة مصالح متشابكة، تتقاطع فيها الاعتبارات السياسية والزبونية والولاء الشخصي.

ومع مرور الوقت، تتحول هذه الأعطاب إلى أعراف، وتُصبح الأعراف بدائل للسياسات، ويصبح التمكين للنخب الجديدة هدفًا صامتًا للمنظومة، ولو على حساب الفئات التي لا صوت لها داخل الجهاز.

الانحراف السياسي هنا لا يُعلن عن نفسه، بل يشتغل داخل التفاصيل: في الكواليس، في الإقصاء الهادئ، وفي استثمار النفوذ على حساب العدالة.

وفي نهاية هذا المسار، يُطرح السؤال الحاسم:
هل ما زالت المؤسسات تُدير الشأن العام؟
أم أنها، بصيغتها الحالية، تُدير هندسة الامتياز؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version