تخيلوا مشهدًا سياسيًا مجردًا من كل مظاهر الامتياز: لا سيارات فارهة، لا تعويضات سمينة، لا جوازات سفر دبلوماسية، ولا مكاتب فخمة تحيط بها الحاشية.

تخيلوا أن المسؤول العمومي يتقاضى راتبًا متوسطًا، يسكن مثل باقي المواطنين، ويدخل إلى طابور المستشفى العمومي مثل أي مواطن بسيط.

هل سيبقى نفس التهافت على المناصب الانتخابية والتنفيذية؟
أم أننا سنكتشف فجأة أن الحماس كان في جزء كبير منه مرهونًا بما يغدقه المنصب من امتيازات، لا بما يقتضيه من تضحيات؟

المنصب في جوهره ليس غنيمة، بل تكليف مؤقت لخدمة الناس، غير أن التجربة السياسية المغربية ـ بل والعربية عمومًا ـ حوّلته إلى سلّم اجتماعي واقتصادي، وإلى أداة للترقي الطبقي وتضخم الثروة.

لهذا يظل سؤال: لو نُزعت الامتيازات، هل ستبقى نفس الرغبة في تولي المسؤولية؟
سؤالًا كاشفًا لجوهر الدافع السياسي.

يُرجَّح أن كثيرًا ممن يلهثون اليوم وراء مقاعد البرلمان أو رئاسة المجالس سيتوارون إلى الخلف، تاركين المجال لمن يحمل مشروعًا حقيقيًا، لا لمن يبحث عن بطاقة “VIP” جديدة.

لكن الأخطر من الامتيازات المادية هو غياب المحاسبة.
فما قيمة تجريد المنصب من الامتياز إذا لم يرافقه نظام صارم يحاسب المسؤول على القرارات، ويضع حصيلته تحت عين المجتمع؟

فالتجربة تثبت أن السياسي الذي لا يخاف المحاسبة يظل قادرا على استغلال المنصب حتى ولو لم يُمنح أي امتياز مباشر.

المشكلة إذن ليست في الامتياز وحده، بل في منطق الإفلات من العقاب الذي يفرغ السياسة من معناها، ويحوّل العملية الانتخابية إلى ديكور ديمقراطي فارغ من المضمون.

وهنا يبرز سؤال آخر: هل سيبقى الناخب متحمسًا للتصويت؟

الواقع يقول إن ثقة المواطن في السياسة ترتبط بمدى جدية ربط المسؤولية بالمحاسبة.
فإذا رأى الناس أن المسؤول يُحاسَب، وأن المنصب لم يعد بابًا للاغتناء بل فضاءً لخدمة عامة، قد تتجدد الثقة وتعود المشاركة بقوة.

أما إذا استمرت الامتيازات بلا رقيب، والصفقات تُدار خلف الأبواب المغلقة، فلن يكون مستغربًا أن يتعمق العزوف الانتخابي وتزداد الهوة بين المجتمع وصناديق الاقتراع.

الإصلاح الحقيقي لا يكتفي بإلغاء الامتيازات، بل يحتاج إلى جراحة مزدوجة:
أخلاقية، تعيد تعريف المنصب باعتباره مسؤولية لا فرصة للاغتناء، ومؤسساتية، تضع آليات شفافة للمراقبة والمحاسبة والعقاب.

فقط حينها يصبح المنصب اختبارًا حقيقيًا للرغبة في خدمة الوطن، لا صفقة استثمارية مربحة.

إن السؤال الذي طُرح يكشف عن لبّ الأزمة السياسية:
هل السياسة عندنا واجبٌ ومسؤولية أم غنيمة وامتياز؟

الجواب ما زال معلقًا بين خطاب الإصلاح ورغبة الاستفادة،
لكن اليقين أن تجريد المناصب من الامتيازات، وربطها بمحاسبة صارمة، سيكون كفيلا بفرز النيات، وتمييز أصحاب المشاريع الوطنية عن محترفي الصفقات.

وحينها فقط، قد نستعيد المعنى الحقيقي للصندوق…
وقد يستعيد المواطن ثقته في السياسة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version