كشفت مصادر إعلامية أن تقارير أنجزتها لجان تابعة للمجالس الجهوية للحسابات بجهات الدار البيضاء-سطات، مراكش-آسفي، وفاس-مكناس، أماطت اللثام عن خروقات جسيمة داخل عدد من المجالس الجماعية، بعدما تبين أن جزءاً من الصفقات العمومية لم يعد يُدار بمنطق المصلحة العامة، بل تحوّل إلى قناة لخدمة مصالح ضيقة عبر شركات وهمية أو أخرى مملوكة لأبناء وأزواج بعض المنتخبين.
وبحسب المصادر نفسها، فإن قضاة الحسابات رصدوا خلال مهام التفتيش تورط شركات مشبوهة في معاملات مالية مثيرة للريبة، حيث أُبرمت عقود ضخمة مع مقاولات تفتقر لأبسط شروط التأهيل، فيما ظهر أن بعض الرؤساء اختاروا التحايل على مقتضيات “تضارب المصالح” عبر تأسيس شركات بأسماء الأقارب والأصهار، مستغلين ثغرات قانونية ودوريات رسمية بقيت حبرًا على ورق.
وتضيف المعطيات أن تقارير الافتحاص وقفت على سلسلة من الاختلالات التي مست صفقات الطرق والنظافة والتجهيز والدراسات، بل وحتى فواتير الماء والكهرباء والاتصالات، في وقت كانت وزارة الداخلية قد وجهت مراسلات تشدد على التقشف وإعطاء الأولوية للنفقات الإجبارية.
غير أن الواقع كشف وجهاً آخر: نزيف مالي ممنهج، يتغذى من غياب الرقابة الميدانية ومنطق المحاسبة المؤجلة.
المثير أن هذه الممارسات لم تعد استثناءً، بل صارت تتكرر في عدد من الجماعات الترابية، حتى تحولت في نظر كثيرين إلى واجهات شكلية تخفي وراءها مقاولات عائلية ومصالح انتخابية ضيقة، يقودها بعض المنتخبين الذين يرون في المنصب المحلي فرصة للاغتناء السريع.
وهنا يطرح السؤال المؤلم: هل ما تبقى من الأحزاب السياسية سوى منصات تسمح بمرور هذه النوعية من المرشحين؟
الجواب لا يحتاج كثير عناء. فحين تغيب المحاسبة منذ اللحظة الأولى، وحين تمرّ الصفقات بلا افتحاص حقيقي أو متابعة قضائية صارمة، تتكرس قناعة لدى بعض المنتخبين بأن المنصب غنيمة لا تكليف، وبأن المجلس وسيلة لتوزيع الريع لا لخدمة الناس.
وهكذا تنشأ علاقة مشوهة بين السياسة والمال، تتحول فيها الديمقراطية التمثيلية إلى سوق مفتوح، وتصبح الأحزاب مجرّد عناوين فارغة تسوّق وجوهاً متشابهة.
وليس من المبالغة القول إن أزمة الثقة في العمل السياسي المغربي تجد جزءاً من جذورها هنا، في هذه الجماعات الترابية التي تمثل الواجهة الأولى لاحتكاك المواطن بالدولة.
فإذا كان الفساد يتكرر في هذا المستوى، وإذا كان بعض المنتخبين يُختزلون في صورة “سماسرة صفقات”، فإن أي خطاب عن التنمية المندمجة والمستدامة يظل مجرد ديكور لتغطية أعطاب أعمق.
الخلاصة أن ما رصدته تقارير المجالس الجهوية للحسابات لا يتعلق فقط بأرقام تقنية، بل يكشف أزمة بنيوية أكبر: أحزاب تُدخل مرشحين بلا كفاءة ولا نزاهة، رقابة شكلية تتأخر حتى يفوت الأوان، ومجتمع يدفع الثمن مرتين: مرة حين تُهدر أمواله في صفقات مشبوهة، ومرة حين يُحرم من خدمات عمومية أساسية.
وبين الحالتين، يظل السؤال المعلّق: إلى متى سيبقى الفساد يتكرر، والمحاسبة مجرد شعار يُرفع في المناسبات؟