الزاوية البودشيشي… السلطة الرمزية (1)

الولوج إلى شبكات المصالح: يُعتقد أن الانتماء إلى الزاوية يفتح أبوابًا للفرص الاجتماعية والاقتصادية، مما يجذب إليها أفرادًا يسعون لتحقيق مكاسب دنيوية، وليس فقط للبحث عن التجربة الروحية. هذا الجانب يُثير تساؤلات حول مدى نقاء الزوايا لدى بعض المريدين، ويُعزز من فكرة أن الزاوية أصبحت شبكة مصالح تتجاوز البعد الروحي.

الزاوية كفاعل اجتماعي وسياسي: تُوظف الزاوية سلطتها الرمزية في المجال العام، وتضع مقارباتها الخاصة. بل يبد أن تكون التصوف فاعلًا في المجتمع، يساهم في بناء العلاقات الاجتماعية، لا في إنتاج الاحتفالات الكبرى وتوزيع الولاء لجمع المريدين وتعزيز الروابط بينهم. ومع ذلك، فإن الخطوة بين الخطاب الصوفي الذي يدور على تزكية النفس والتحرر من الدنيا، وبين الممارسات الاجتماعية التي يُحضر فيها بقوة في المشهد العام، تثير تساؤلات حول مدى التزام الزاوية بقيم التصوف الأصلي [9].

“التفويض السرّي” ومسألة “السر”:
تُعد مسألة “السر” من أكثر النقاط إثارة للجدل والغموض في الزاوية البودشيشية، ويُوظف بشكل حرجًا للغاية، خاصة في عملية التوريث، إذ يتم تفويض التصور للمريدين فهمه: إن “السر” عادة ما يُمنح من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمرقبة قلبية بامتلاكها الشيخ، وتنقله، فيُقال أنه إلى تدريبية استمرارية البعد الروحي في ما يُعرف بـ “سلسلة الإجازة الصوفية” التي تُضمن انتقال “السر” من جيل إلى جيل. هذا المفهوم يمنح الشيخ بإضافته للصوفيين وصولًا إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويمنحه شرعية رمزية وروحية [10].

إلا أن مفهوم “السر” في الحالة البودشيشية قد أخذ بعدًا غامضًا ومختلفًا، مما أثار تساؤلات حول مشروعيته، لاسيما أن الشيخ يتحكم في “السر”، ويمنحه لمن برأه أهلاً للخلافة، مما يجعل عملية الخلافة غير قائمة على الشورى. هذا التفويض يثير العديد من “التساؤلات الأكاديمية والنقدية”.

هل “السر” مفهوم رمزي كآلية للتواصل الروحي مع الله عبر الشيخ، بل قد يكون آلية لضبط السلطة داخل الزاوية وضمان الولاء المطلق للشيخ وخلفه. فمع غياب الشفافية حول كيفية انتقال هذا “السر”، يصبح الأمر أقرب إلى رمزية سلطوية لتكون استمرارية العائلة البودشيشية في المشيخة، وتُفرز من هيمنتها على الزاوية [11].

لقد كرّست الزاوية البودشيشية هذا المفهوم عبر حضورها الرمزي والسياسي للمخزن، حيث أحدث في منظومة المخزن لتصبح بمثابة “زاوية سلطانية”. هذا الوضع يُثير تساؤلات حول استقلالية الزاوية الروحية، حيث يرى المتفائلون أن هذه العلاقة قد تضعف من قدراتها، وتحل محلها علاقة قوة وعمودية تتماشى مع النموذج السياسي للمخزن.

البعض الآخر من المتتبعين، يرى أن الزاوية لم تعد محدودة في مفهومها بـ”الرعية”، بل يتجاوز المنخرطون في الزاوية الشيخ دون تابع أعلى له، إذ أصبحت العلاقة قائمة على “شيخ الدولة”.

فقدان الاستقلالية الروحية: يُجادل البعض بأن الاندماج العميق للزاوية في منظومة المخزن قد أدى إلى فقدانها لجزء كبير من استقلاليتها الروحية، فبدلاً من أن تكون مصدرًا مستقلًا للسلطة الرمزية أصبحت جزءًا من جهاز الدولة، مما يفقدها مصداقيتها في نظر بعض الشركاء، خاصة تلك التي تبحث عن تجربة صوفية خالصة بعيدة عن تأثيرات السياسة.

توظيف الزاوية في الأجندة الرسمية: تُستخدم السلطة الرمزية للزاوية بحكم علاقتها بالمخزن، في دعم الأجندة الرسمية للدولة سواء في مواجهة التيارات الإسلامية المستحدثة، أو في تعزيز الإسلام المعتدل الذي تُشرف عليه الدولة، في إطار الإسلام المغربي. هذا الوضع وإن كان يخدم مصالح الدولة، إلا أنه يُثير تساؤلات حول مدى حرية الزاوية في اتخاذ قراراتها وفق قناعتها وليس بضغط السلطة.

التبعية المالية والإدارية: قد تمتد هذه العلاقة إلى التبعية المالية والإدارية، حيث تتلقى الزاوية دعمًا من الدولة، وتخضع لإشرافها في بعض الجوانب. هذه التبعية تُفرز من فكرة أن الزاوية أصبحت مؤسسة رسمية تندرج ضمن استراتيجية الدولة لإدارة الحقل الديني.

إن العلاقة بين الزاوية البودشيشية والمخزن تُجسد تحديات المشهد الديني والسياسي في المغرب، وتُعيد إشكالية البعد الروحي إلى المصالح السياسية، وتشكل شبكة معقدة من العلاقات التي تلقي بظلالها على دور الزاوية ومكانتها في المجتمع.

المناقشة والتحليل النقدي

تقدم الانتقادات الموجهة للزاوية البودشيشية صورة معقدة ومتعددة الأبعاد لظاهرتها الصوفية البارزة في المغرب. إن تحليل هذه الانتقادات لا يقتصر على مجرد سردها، بل يتطلب مناقشة معمقة لأبعادها الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، وكيف تتفاعل مع الممارسات الفعلية للزاوية، ودور الفاعلين المختلفين في تشكيل الرأي العام حولها.

البعد عن الزهد والتصوف الأصيل.

يُعد الزهد والتواضع والانفصال عن زخارف الدنيا من المبادئ الجوهرية في التصوف الأصيل، حيث يسعى الصوفي إلى تطهير النفس من التعلق بالماديات والتركيز على العلاقة الروحية مع الله. ومع ذلك، يرى العديد من المنتقدين أن الزاوية البودشيشية ابتعدت عن هذا الخط الأصيل، وأن ممارساتها الحالية لا تتوافق مع روح الزهد والتواضع التي تميز التصوف الحقيقي [7].

تُتهم الزاوية بأن الانتماء إليها أصبح وسيلة للترقي الاجتماعي والولوج إلى شبكة واسعة من العلاقات والمصالح، بدلًا من كونها تجربة تهدف للتجرد الروحي. وتُثار في هذا الصدد عدة نقط:

  • الاستقبالات الضخمة والاحتفالات الباذخة: تُنظم الزاوية موسماً سنوياً واحتفالات صوفية كبرى، يحضرها الآلاف من المريدين والشخصيات العامة، وتميز هذه الاحتفالات بالبهرج، الزخرف الضخم ومظاهر البذخ، ما يتناقض مع مبدأ الزهد والسلوك الصوفي. كما أن هذه “التجمعات”، إن كانت تهدف إلى إشاعة المحبة والتسامح، إلا أنها تفسر على أنها استعراض للقوة والنفوذ وتعيد تشكيل صورة الزاوية.
  • الدور الإعلامي: تُولي الزاوية أهمية خاصة للإعلام، خاصة بالمواسم، إذ يتم تصوير الاحتفالات بشكل احترافي وبثها على نطاق واسع، مما يُضفي طابعاً دعائياً، خاصاً مع التركيز على الحضور الأجنبي، والتغطية الإعلامية الواسعة، ويُلاحظ أن بعض الخطب تُترجم إلى عدة لغات، ما يُعطي الانطباع بأن الهدف هو الترويج السياسي والدولي.

تُهمة التوظيف السياسي 3.1

تُطرح من قِبل عدد من الانتقادات، حيث يرى بعض من المراقبين والباحثين، بخلفية من التيارات الإسلامية المعارضة (كالسلفية، والحركات الإسلامية السياسية)، أن الزاوية قد [تحولت إلى أداة وظيفية في يد النظام المغربي لخدمة أجنداته السياسية والدينية [3.

  • الدبلوماسية الروحية، البعد الدبلوماسي: عبر استقطاب مريدين من أوروبا وإفريقيا وجنوب الصحراء، أصبحت الزاوية وظيفة موازية للدبلوماسية الرسمية، حيث “يقدّم المغرب باعتباره بلد “الإسلام الصوفي المعتدل”. وهذا يخدم صورة الدولة في الخارج خصوصاً في الاتحاد الأوروبي وإفريقيا.
  • تسويق الخطاب: بعد حضور للبعد السياسي والاقتصادي والأمني في فاعليات الزاوية لتوحيد هذه الرؤية حول رؤية معتدلة، وتعزيز لأنها للتنظيم، فإن الزاوية توفر فضاءً مريحًا للتواصل والتنسيق بين هذه الشرائح، مما يُساهم في الاستقرار المفيد السياسي.
  • دور الزاوية في المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر: يرى متابعون أن الزاوية تلعب دورًا متزايدًا في تدبير الشأن السياسي والاجتماعي المعاصر في المغرب، يتجاوز مجرد البعد الروحي.
  • التأثير على الرأي العام: بفضل قاعدتها الجماهيرية الواسعة، تتمتع الزاوية بقدرة على التأثير في الرأي العام، خاصة في القضايا التي تمس الجانب الديني أو التوترات الاجتماعية. هذا التأثير يمكن أن يوظف لدعم سياسات معينة أو لتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.
  • الوساطة الاجتماعية: لا تزال الزاوية تلعب دورًا في الوساطة الاجتماعية، وحل النزاع على المستوى المحلي، مما يساهم في استقرار المجتمع وتخفيف العنف.
  • العمل الخيري والاجتماعي: تستمر الزاوية في تقديم مساعدات خيرية واجتماعية للمحتاجين، مما يعزز صورتها ويجعلها جزءاً لا يُتجزأ من النسيج الاجتماعي.

الانتقادات الموجهة للزاوية البودشيشية: تحليل عميق.

ملاحظة على صراعات الخلافة وتأثيرها

  • التنافس بين الإخوة: بعد وفاة الشيخ جمال، تنافس أبناؤه على منصب المشيخة، مما أدى إلى ظهور بيانات متضاربة، واتهامات متبادلة. هذه الصراعات، التي وصلت أحيانا إلى وسائل الإعلام، كشفت عن وجود خلافات عميقة داخل العائلة حول من هو الأحق بوراثة “السر”، خاصة إذا كانت هناك شكوك حول شرعية الخلافة.
  • تأثير العوامل الخارجية: لا تقتصر صراعات الخلافة على العوامل الداخلية للزاوية، بل تتأثر أيضا بالعوامل الخارجية، مثال دعم السلطة السياسية أو النخب الاجتماعية، فالطرف الذي يحظى بدعم أكبر من هذه الجهات، يكون له حظ أوفر في حسم مسألة الخلافة لصالحه. ما يُعزز من فكرة تداخل الروحانية مع الاعتبارات السياسية، والدنيوية خصوصاً حين تتدخل السلطة في تسهيل الخلافة الجديدة، يفقد للشيخ الجديد كل شرعية محبطة بأسر والبركة، ويمنح موقفاً للسلطة.
  • تأثير على وحدة الزاوية: يمكن أن تؤدي صراعات الخلافة إلى زعزعة استقرار الزاوية، خاصة في صفوف المريدين، بما يُضعف من نفوذها وتأثيرها في الواقع. في بعض الحالات، قد ينشق بعض التابعين ويؤسسون طرقاً صوفية جديدة، أو ينضمون إلى طرق أخرى، مما يؤدي إلى وحدة الزاوية واستمراريتها.

يشير هذا الصراع إلى أن الزاوية البودشيشية، رغم مكانتها الروحية، ليست بمنأى عن التحديات التي تُواجه المؤسسات البشرية، وأن مسألة الخلافة فيها تُعيد فتح النقاش حول المشروعية والشرعية، وتُثير تساؤلات حول مدى قدرتها على الحفاظ على استقلالها الروحي في ظل هذه التحديات.

العلاقة مع المخزن

تعد العلاقة بين الزاوية البودشيشية والمخزن (النظام الملكي المغربي) من أبرز الجوانب التي تُثير الجدل والانتقاد، وتكشف عن معادلة دقيقة، ومعقدة في المشهد الديني والسياسي المغربي. في المغرب، يتمتع الملك بصفة “أمير المؤمنين”، مما يمنحه مرجعية دينية عليا، ويجعله فوق جميع الزوايا والطرق الصوفية. هذا الموقع الديني للملك يُبرر تدخله في شؤون الزوايا، حيث لا يُعتبر تدخلاً خارجياً، بل طبيعياً بحكم موقعه كرمز ديني جامع للأمة [15].

تأثير التفويض على الشرعية: يمكن أن يؤدي التفويض المحيط بمسألة “السر” إلى إضعاف الشرعية الروحية للشيخ الجديد في نظر بعض المريدين أو المراقبين الخارجيين، خاصة إذا لم تكن عملية الانتقال واضحة وشفافة. ففي غياب معايير واضحة ومعمّقة لاختيار الخليفة، قد تُفسر عملية الانتقال على أنها مجرد وراثة عائلية لا تستند إلى أسس روحية حقيقية.

دراسات تحليلية حول هذا المفهوم

  • التحليل السوسيولوجي: من منظور سوسيولوجي، يمكن تحليل مفهوم “السر” كتشكل من أشكال “رأسمال رمزي”، الذي تمتلكه العائلة الحاكمة للزاوية. هذا الرأسمال الرمزي يُنتج السلطة، والنفوذ داخل الزاوية، ويضيف هالة من القدسية على الشيخ وورثته، مما يُعزز مكانتهم ويُبرر ولاء المريدين. فالتفويض هنا ليس قصداً بل هو جزء من استراتيجية بناء الهيبة والسلطة [12].

إن مسألة “السر” في الزاوية البودشيشية تُبرز التوتر بين البعد الروحي الباطني للتصوف، وبين الإبعاد الاجتماعي والسياسي التي تُشكل جزءاً من واقع الزوايا الصوفية. بينما ينظر البعض إلى السر باعتباره أداة للشركة والاتصال الإلهي، ينظر إليه من قبل المنتقدين كأداة لتعزيز السلطة والتحكم في الخلافة.

  • على الرغم من أن مفهوم “السر” يُفترض أنه يحدد الخلفية بشكل واضح داخل العائلة البودشيشية، إلا أن الواقع يُظهر وجود صراعات حقيقية وعنيفة أحياناً حول الزعامة الروحية، وقد يتجلى ذلك في ما حدث بعد وفاة الشيخ جمال في 2025، حيث لم يحسم الشيخ خلافته بشكل قاطع، بل يُستعمل ذلك في الصراع السياسي والاقتصادي، والمتنسكبة في الزاوية البودشيشية، كما هو الحال في العديد من الطرق الصوفية الكبرى، تنتقل عادة الوراثة داخل العائلة المؤسسة، مما يجعلها عرضة لصراعات النفوذ والمصالح. بعد وفاة الشيخ جمال، برزت بعض التوترات حول من هو وراثة المشيخة، أبناؤه أو أحفاده، مما أدى إلى ظهور انقسامات داخل صفوف المريدين [14].

مقارنة الانتقادات مع الممارسات الفعلية للزاوية.

تُظهر المقارنة بين الانتقادات الموجهة للزاوية البودشيشية وممارساتها الفعلية وجود فجوة بين الخطاب والخط الفعلي، ففي بعض الأحيان، تُقدَّم الزاوية نفسها كمؤسسة روحية، بينما تُمارس دوراً فعلياً في المشهد الاجتماعي والسياسي، وهذا التناقض الظاهري يُفسَّر بعدة طرق:

  • التكيف مع الواقع: قد تكون الزاوية قد تكيّفت مع الواقع السياسي والاجتماعي في المغرب، حيث أن التفاعل مع السلطة والمخزن جزءاً من المشهد العام. فالبقاء على الحياد التام قد يُعرض الزاوية للعزلة أو التهميش، بينما يمكن للمكانة الروحية أن تتوافق مع السلطة إن توفر لها الحد الأدنى من الاستقلالية دون خسارة رمزيتها.
  • التصوف العملي: يرى بعض المدافعين عن الزاوية أن التصوف ليس بالضرورة انعزالاً عن المجتمع، بل تصوف عملي يسعى إلى التأثير الإيجابي في الواقع، وبالتالي فإن حضور الزاوية في الفضاء العام وتفاعلها مع النخب، يمكن أن ينظر إليه كجزء من دورها في خدمة المجتمع ونشر القيم الروحية.
  • تعدد الأدوار: تمارس الزاوية أدوارًا متعددة، فهي ليست مجرد مؤسسة روحية، بل هي أيضًا فاعل اجتماعي واقتصادي وسياسي. هذه الأدوار المتعددة قد تُفسر بأن الزاوية في بعض اللحظات، تُضطر إلى اتخاذ قرارات حول أولويات السلطة وأهدافها الواقعية.

استشرافات حول مستقبل الزاوية البودشيشية

من المرجح أن تستمر الزاوية البودشيشية في لعب دور مهم في المشهد الديني والاجتماعي في المغرب، لكن ذلك يظل مرهوناً بقدرتها على التكيّف مع التحولات، وتعزيز علاقتها الروحية مع المريدين، ولكن أيضاً بمستوى الوعي والنقد لدى الفاعلين، إذ يتطلب الأمر شجاعة لإعادة النظر في بعض ممارساتها، أو تقديم تفسيرات أكثر شفافية حول طبيعة علاقاتها ومفاهيمها، للحفاظ على مكانتها وتجاوز هذه التحديات.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version