كشفت مصادر إعلامية أن المال العام في المغرب لا يُدار فقط عبر القنوات الرسمية لقوانين المالية، بل يتوزع على شبكة من الصناديق الخاصة، التي كثيراً ما يُطلق عليها في لغة السياسة والرقابة المالية اسم “الصناديق السوداء”. هذه الصناديق ليست مصطلحاً عابراً، بل واقع قائم، يتحرك في الظل بعيداً عن أعين البرلمان والرأي العام، ويمنح لبعض دوائر القرار قدرة استثنائية على التحكم في الموارد دون أن تطالها المساءلة.

هذه الحسابات الخصوصية أُنشئت في الأصل لغايات محددة: مواجهة أزمات ظرفية، أو تمويل أوراش وطنية كبرى، أو دعم قطاعات تحتاج إلى تدخل عاجل. غير أن التجربة أثبتت أن هذه الصناديق تحولت مع مرور الوقت إلى خزائن موازية للمالية العمومية، يتسرب منها المال العام كما يتسرب الماء من ثقوب غير مرئية. وهنا يظهر “العرّاب”، ذاك الفاعل الخفي الذي لا يُرى في المشهد السياسي المباشر، لكنه يمسك بالخيوط الدقيقة، ويوجه حركة الأموال والقرارات وكأنه مايسترو يقود أوركسترا سرية من وراء الستار.

المجلس الأعلى للحسابات لم يتردد في دق ناقوس الخطر. ففي فبراير 2024، كشف تقريره السنوي عن اختلالات كبيرة في تدبير الدعم العمومي الموجه للأحزاب السياسية. أموال بعشرات الملايين ضاعت بين سوء التدبير وانعدام التبرير. وبحلول نوفمبر من نفس السنة، كان المجلس قد أعلن أن 24 حزباً وكياناً نقابياً أعادوا إلى خزينة الدولة حوالي 38 مليون درهم، بينما ظلت مبالغ أخرى تناهز 22 مليوناً دون مبرر. ثم جاء تقرير ماي 2025 ليعمّق الصورة أكثر: 140 مليون درهم خُصصت كدعم للأحزاب، لم يُصرف منها سوى 60 مليوناً بشكل قانوني وشفاف، فيما تاه الباقي بين مصاريف غير مبررة وسحوبات نقدية مثيرة للشبهات.

هذه الأرقام ليست مجرد تفاصيل محاسباتية، بل مفاتيح لفهم الطريقة التي تُدار بها السياسة المالية في المغرب. إنها تكشف أن جزءاً غير يسير من المال العمومي يُصرف خارج المساطر العادية، عبر قنوات يختلط فيها السياسي بالاقتصادي، وتذوب فيها الحدود بين مصلحة الدولة ومصلحة دوائر النفوذ. هنا بالتحديد يتموضع “العرّاب”: ليس وزيراً عادياً ولا فاعلاً سياسياً تقليدياً، بل مهندس شبكة مصالح، ينسّق بين الصناديق السوداء والقرارات الكبرى، ليحوّل المال العام إلى أداة لإعادة توزيع السلطة.

المفارقة أن وجود هذه الصناديق يجد دوماً تبريرات جاهزة: “الظرفية الاقتصادية”، “الحاجة إلى المرونة”، “أولويات استراتيجية”. لكن ما يثبته الواقع هو أن هذه الاستثناءات تحولت إلى قاعدة، وأن ما كان ينبغي أن يكون آلية مؤقتة صار مؤسسة دائمة. وبين القاعدة والاستثناء، تضيع الشفافية، وتُفرغ المساءلة الديمقراطية من مضمونها.

أبعد من الأرقام، تكمن خطورة “الصناديق السوداء” في أنها تُحدث شرخاً في العلاقة بين المواطن والدولة. فحين يقرأ المواطن قانون المالية، يظن أنه أمام الخريطة الكاملة لمصاريف بلاده، لكنه في الواقع لا يرى سوى نصف الحقيقة. النصف الآخر محجوب في ظلال العرّاب، حيث تُرسم الأولويات وتُوزع الاعتمادات دون نقاش، وحيث يصبح الصمت المؤسسي جزءاً من اللعبة.

إن الحديث عن “العرّاب والصناديق السوداء” ليس إذن مجرد توصيف بلاغي، بل تشخيص لآلية حكم. دولة بميزانيتين: واحدة معلنة للعرض والواجهة، وأخرى خفية تُدار كأوركسترا مالية في كواليس السياسة. وحين تُختزل الديمقراطية في مجرد تقارير سنوية لا تغيّر من عمق الممارسة شيئاً، يبقى السؤال الأهم: من يحاسب العرّاب؟ ومن يعيد للمال العام حقه في الضوء؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version