من باريس، حيث تُكتب الكثير من سيناريوهات ما بعد الاستعمار، اختارت صحيفة لوموند أن تفتح سلسلة مقالاتها بعنوان “لغز محمد السادس”، واضعة المغرب في غرفة تشريح استشراقي، تغلّفه أناقة لغوية فرنسية، لكنه محكوم بمنطق الوصاية الثقافية والتأويل السياسي المغرض.
الصحيفة التي ادّعت الغوص في “نهاية عهد” ملكي، لم تُخفِ شغفها بترتيب انتقال السلطة في الرباط، كما لو كان شأناً داخلياً لقصر الإليزيه.
مقالها المطول – والمشحون بالملاحظات الشخصية والمصادر المجهولة – لم يكن تحقيقًا صحفيًا، بقدر ما كان إعادة إنتاج لخطاب متهالك يرى المغرب دولة لا تزال تنتظر “نضجها الديمقراطي”، ولا يراها أبدًا كفاعل سيادي يملك زمام خياراته.
ركزت لوموند على صور ومشاهد للملك محمد السادس، بين ظهور بروتوكولي وآخر ترفيهي، محاولةً تمرير قراءة تقول إن المغرب يعيش ازدواجية بين ملك غائب جسديًا وحاضر رمزيًا.
لكنها تغافلت عن سياق الدولة المغربية، وعن بنيات النظام السياسي الذي لا يُختزل في الأجساد، بل يُبنى على تقاليد مؤسساتية، ومرونة دستورية، وحكمة تاريخية ضاربة في العمق، لا تنتظر إشارات من باريس لتقرّر مصيرها.
ثم إن الصحيفة، التي لا تُخفي انزعاجها المزمن من السياسة الإفريقية للمغرب، ولا من توجّهاته السيادية المتحررة من الحظيرة الفرنكوفونية، لم تفوّت الفرصة لتغذية شبهة “الفراغ”، مستعملة أدوات تحليلية هشة، تكشف جهلاً ببنية الدولة المغربية أكثر مما تكشف عن “لغز ملك”.
التحقيق الفرنسي يفتح ملف “الخلافة المؤجلة”، ويتابع خطوات ولي العهد مولاي الحسن، كما لو أن الرباط مدينة تابعة تنتظر ضوءًا أخضر من باريس لتنتقل إلى “المرحلة الثانية”.
وتلك سقطة سيادية لا يمكن التساهل معها، لأن المغرب، الذي كتب انتقالاته بنفسه منذ قرون، لا يحتاج إلى محاضرات في التوريث ولا في بناء الشرعية.
ومن يحاضرون اليوم من ضفة السين، هم أنفسهم من تغافلوا عن مأساة الجمهوريات المنهارة، وارتبكوا في تدبير لحظات الانتقال، فكيف يُنصّبون أنفسهم أوصياء على توازنات الملكية المغربية؟
ما يُثير السخرية الحزينة هو إصرار لوموند على تقديم الدولة المغربية من خلال علاقتها بثلاثة إخوة من عالم MMA، ثم تضخيم هذه العلاقة لتصبح بديلاً عن مؤسسات القرار الوطني، قبل أن تعرج على قصة كلب ضائع، بحثت عنه الشرطة، وكأنها فقدت سرّ الدولة.
هذا النوع من التحليل الكاريكاتوري لا يُنتج سوى تبسيطات مائعة، ويكشف في العمق رغبة دفينة في التقزيم السياسي، لا يمكن قبولها من صحيفة تُفترض فيها المهنية والنزاهة.
تُشير الصحيفة في ختام “تحقيقها” إلى أزمات المغرب الاجتماعية والاقتصادية، وتُلمّح إلى أن المؤسسة الملكية وحدها من يمنح الغضب الشعبي مخرجًا رمزياً، وكأن القصر هو المسبب الوحيد للاحتقان وهو الحل النهائي له.
لكنها تتغافل – كعادتها – عن سياق دولي مأزوم، وعن اقتصادات كبرى لا تزال تتخبط في تبعات الجائحة، والحروب، وارتفاع الأسعار.
وإذا كان المغرب يعيش مفارقات اجتماعية حادة، ففرنسا نفسها تقف على صفيح احتجاجي لا يهدأ، بين إضرابات قطاعات، وصعود تطرف سياسي، وتضاؤل ثقة المواطن في الجمهورية الخامسة.
فأي شرعية أخلاقية أو تحليلية تبقى لصحافة تنتمي لدولة مأزومة، تحاول إسقاط ارتباكها على الآخرين، وتبحث في العواصم المستقلة عن مكان ضائع لها في الخريطة؟
التحقيق الذي نشرته لوموند ليس لغزًا كما ادّعت، بل مرآة فرنسية مشروخة، تعكس قلقًا متزايدًا من مغرب يُعيد صياغة علاقاته بشماله وجنوبه، ويتحرّر من المعادلة التقليدية: رضا باريس مقابل الشرعية.
وإذا كانت الصحيفة قد افتتحت ملفها بنبرة “التحليل الموضوعي”، فإن ما بين السطور يقطر حنينًا قديمًا للتحكم، وشوقًا مكبوتًا لوصاية انتهى عهدها.
المغرب لا يُدار من غرف التحرير الباريسية، بل من عقل سياسي سيادي يعرف موقعه ومصالحه وتحالفاته.
و”الخلافة”، التي تنتظرها أقلام الصحافة الفرنسية بفارغ التأويل، ستحدث حين تشاء الدولة، لا حين يُنشر مقال.
والمخزن، الذي تحللونه من بعيد، لا يشتغل بمنطق “التنقيط الخارجي”، ولا يتلقى الإشارات من باريس أو لندن.
أما الملك، فرغم صمته السياسي، يظل حاضرًا في مشهد انتقال هادئ، لا يشبه ما تتخيله فرنسا، ولا ما تشتاق إليه.