لم تعد الخرجات الشعبية في القرى والبوادي مجرد احتجاجات معزولة، بل تحولت إلى جرح يومي مفتوح يفضح هشاشة العدالة المجالية.
شباب ونساء وشيوخ يقطعون الكيلومترات على الدواب ليصرخوا في وجه العطش: “أعطونا الماء الصالح للشرب”. مطلب يُفترض أنه من بداهات الحياة، لكنه في مغرب المفارقات صار سبباً للتظاهر والاعتصام.

كشفت مصادر إعلامية أن هذه الموجة من الغضب لم تولد من فراغ، بل هي حصيلة سنوات من التهميش وغياب الاستثمارات في البنيات الأساسية.
فبينما يتباهى الخطاب الرسمي بإنجاز الطرق السيارة والقطارات الفائقة السرعة، ما زالت آلاف الدواوير تنتظر صهريج ماء بثمن يصل أحياناً إلى 100 درهم للطن، أي ما يعادل عشرة أضعاف ما يدفعه سكان المدن.

الملك نفسه لم يتردد في فضح هذه المفارقة في خطابه الأخير حين تحدث عن مغرب يسير بسرعتين: سرعة فائقة مدفوعة بالملايير نحو مشاريع كبرى ذات بريق عالمي، وسرعة بطيئة تكاد تتوقف يعيشها سكان القرى في بحث يومي عن الماء والخبز والحد الأدنى من الكرامة.
لكن بين التشخيص الجريء والخطة العملية، ما زال الفارق يتسع، وكأن المغرب النافع والمغرب المهمّش كيانان متجاوران لا يلتقيان.

المغرب يقف على عتبة تنظيم مونديال 2030، وهو مشروع وطني ضخم بلا شك. غير أن خبراء الاقتصاد يؤكدون أن الكلفة قد تتجاوز 150 مليار درهم، تشمل الملاعب والفنادق والطرق والمطارات. في المقابل، لم تُنشر أي دراسة جدوى تشرح للمغاربة كيف ستعود هذه الملايير إلى جيوبهم في شكل فرص شغل أو خدمات اجتماعية.
التجارب الدولية مقلقة: البرازيل أنفقت أكثر من 11 مليار دولار على مونديال 2014، وخرجت بعده بديون خانقة واحتجاجات اجتماعية واسعة. فهل نحن في طريق إعادة نفس السيناريو؟

وراء بريق المونديال تختبئ شبكة مصالح معروفة. الشركات الكبرى التي تُمنح الصفقات لا تمثل المقاولات الصغيرة ولا الفلاحين البسطاء، بل هي جزء من دائرة ضيقة تجمع بين الثروة والسلطة.
العرّاب، رجل الظل الذي يحرك الخيوط، يعرف جيداً كيف يحوّل المشاريع الوطنية إلى مناجم خاصة للربح، بينما القروي يظل يبحث عن قنينة ماء، والتلميذ يدرس في مدرسة بلا سقف.

هنا يكمن جوهر المفارقة: بلد يقدّم نفسه للعالم كقوة صاعدة قادرة على احتضان المونديال، فيما مواطنوه يخرجون يومياً للمطالبة بأبسط حقوق الحياة.
صورة مزدوجة: ملاعب تلمع تحت الأضواء، وقرى تغرق في العتمة. التاريخ لا يرحم. فالدول لا تُبنى بالملاعب وحدها، بل بالعدالة المجالية، وبجعل الماء والكهرباء والمدرسة حقاً طبيعياً لكل مواطن.
المغرب اليوم أمام خيار مصيري: إما أن يستغل زخَم المونديال لإعادة ترتيب الأولويات، أو أن يواصل السير بسرعتين حتى الانفصام الكامل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version