لم تعد الحاجة إلى التضامن الإنساني تمر عبر قنوات المؤسسات الرسمية ولا عبر بيانات مزركشة تُقرأ على عجل في نشرات الأخبار.

صار الفعل التضامني يتجسد في مشاهد أبسط: بث مباشر من شاشة هاتف، صرخة رقمية تصل إلى ملايين المتابعين، ويد ممتدة من وراء المحيط لتسد ثغرة تركها مسؤولون وعرّابو مشاريع لم يتعلموا بعد أن الماء أولى من العشب الأخضر.

مبادرة صانع المحتوى الكندي Agent 00، الذي اختار جبال ورزازات ليبث منها حملة جمع تبرعات لمواجهة أزمة العطش، لم تكن مجرد حدث عرضي أو حيلة إعلامية، بل لحظة كاشفة: في ظرف ساعات قليلة، تجاوزت التبرعات الهدف الأولي (10 آلاف دولار) لتصل إلى 25 ألفاً، أضاف إليها الرجل 15 ألفاً من ماله الخاص، ليبلغ المجموع 40 ألف دولار.

هذا الرقم البسيط في أعين العرّاب، الذي يوقّع على صفقات بالمليارات للملاعب والفنادق والمطارات، يعادل بالنسبة للساكنة العطشى بئراً محفوراً، أو شبكة لتوزيع الماء، أو على الأقل صهاريج تُنقذ قرى بأكملها من العطش.

ورزازات لم تُختر اعتباطاً. المنطقة تجسد صورة المغرب العميق الذي يعيش منذ سنوات على وقع جفاف ممتد، حوّل الماء إلى معركة يومية وسبباً للاحتجاجات.

النساء هناك يقطعن الكيلومترات لجلب مياه غير صالحة للشرب، والأطفال يترعرعون في محيط يعتبر جرعة الماء أثمن من أي وعد انتخابي. فجأة، جاء صدى هذه المعاناة عبر شاشة صغيرة، وربط القرويين العطشى بجمهور دولي قادر على الدفع والتضامن.

المفارقة موجعة: في الوقت الذي تُخصص فيه المليارات لملاعب المونديال، حيث تُزرع مساحات من العشب المستورد وتُشيّد فنادق فاخرة لاستقبال السياح، ما زالت قرى بكاملها تبحث عن خزان بلاستيكي يُجمع فيه ماء الأمطار.

الملاعب تُبنى بسرعة الضوء تحت أعين الكاميرات، بينما مشاريع الماء تُرحّل من لجنة إلى أخرى ومن دراسة إلى أخرى حتى يذبل المشروع في دهاليز البيروقراطية.

أين العرّاب في كل هذا؟ الرجل الذي يتصدر مشهد السياسات الاقتصادية، ويُوصف بمايسترو المشاريع الكبرى، حضوره يظل مكثفاً فقط حين يتعلق الأمر بمونديال أو ميناء أو منطقة حرة.

أما حين يتعلق الأمر بقرى عطشى، فإنها تُترك لتدبيرها الذاتي أو لتعاطف يوتيوبر في أقصى كندا. هنا تتضح معادلة “المغرب بسرعتين”: سرعة العشب الأخضر أمام الكاميرات، وسرعة الماء المقطوع بعيداً عن عدسات العالم.

المبادرة التي أطلقها Agent 00 تجاوزت حدود التضامن البسيط، لتضع سؤالاً مؤرقاً: كيف يعقل أن يُعبئ شاب من وراء المحيط جمهوراً دولياً في ظرف ساعات، بينما تعجز مؤسسات بميزانيات بمئات الملايين عن تأمين مشروع ماء واحد بجدول زمني واضح؟ هل يعقل أن تتحول صناديق عمومية إلى ديكور رقمي، بينما الفعل التضامني الحقيقي يصنعه مؤثر رقمي ببث مباشر؟

الرسالة الأعمق أن العالم تغير، وأن العمل الخيري لم يعد حكراً على المؤسسات التقليدية. لكن الرسالة الأكثر إيلاماً أن عجز المسؤولين ترك فراغاً ملأه مؤثر رقمي.

حين تصبح ورزازات في حاجة إلى “يوتيوبر” لتسقي عطشها، بينما تُصرف الأموال العمومية على ملاعب مونديالية، فإننا أمام مرآة سياسية لا يمكن إنكارها: المؤسسات بنت ملاعب للعشب، لكن الماء ظل رفاهية مؤجلة لساكنة الجبال.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version