مرة أخرى، يتأكد أن الجماعات الترابية في المغرب صارت عنواناً لمفارقة غريبة: ميزانيات محدودة على الورق، لكنها تتحول على أرض الواقع إلى صفقات فارهة تُهدر في سيارات فاخرة وتعويضات مبالغ فيها وتنظيم تظاهرات بلا جدوى.

الجديد هذه المرة أن وزارة الداخلية وجّهت استفسارات إلى عدد من رؤساء الجماعات بناءً على تقارير التفتيش التي أنجزتها المفتشية العامة للإدارة الترابية.

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه: هل الاستفسار كافٍ؟ أم أن ما تحتاجه البلاد فعلاً هو محاسبة صارمة تربط المسؤولية بالجزاء؟

كشفت مصادر إعلامية أن هذه التقارير لم تقتصر على تفاصيل شكلية، بل رصدت خروقات عميقة في مسار إبرام الصفقات: شركات محدودة العدد تستحوذ على عقود متكررة، دفاتر تحملات مفصلة على المقاس، وإقصاء مقاولات ناشئة لا تملك إلا حق التذمر والاحتجاج.

هكذا يتضح أن المشكل لم يعد في سوء التدبير فحسب، بل في وجود شبكات مصالح متشابكة، تلتهم المال العام وتعيد توزيعه بين نخبة صغيرة داخل الجماعات.

والأخطر أن هذه الممارسات تجري في زمن تقشف معلن. الحكومة تدعو إلى شدّ الحزام بسبب الجفاف وغلاء الأسعار، بينما بعض الجماعات تفتح صنابيرها على كماليات لا علاقة لها بأولويات المواطن: سيارات رسمية جديدة، مكاتب فاخرة، مهرجانات صاخبة، وتعويضات تُمنح بسخاء. فهل يُعقل أن المواطن العطشان في القرى يُترك بلا ماء صالح للشرب، بينما سيارات الجماعات تُجدَّد كل بضع سنوات بآخر الطرازات؟

إن الاستفسار، مهما كان ضرورياً كإجراء إداري أولي، لا يمكن أن يكون جواباً نهائياً. فالتجربة أظهرت أن الاستفسارات كثيراً ما تبقى مجرد أوراق تحفظ في الملفات دون أن تتحول إلى مساطر قضائية حقيقية. والنتيجة هي ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، تلك الثقافة التي جعلت كثيراً من المنتخبين يشعرون بأنهم فوق القانون، وأن أقصى ما يمكن أن يواجهوه هو رسالة من عامل أو استفسار من الداخلية يُطوى مع الزمن.

الرأي العام ينتظر شيئاً مختلفاً: أن تتحول تقارير التفتيش إلى ملفات مفتوحة أمام محاكم جرائم الأموال، وأن يرى بأم عينه أن كل من بدد درهماً واحداً من المال العام يُحاسب بلا تمييز.

فالقانون التنظيمي 113/14 واضح في إخضاع مالية الجماعات لرقابة المجالس الجهوية للحسابات والمفتشيات، لكن المشكل كان دائماً في ضعف تفعيل هذه الرقابة وتحويلها إلى أحكام مُلزمة.

إن وزارة الداخلية، بما لها من صلاحيات واسعة، مطالبة اليوم بأكثر من إرسال استفسارات. فهي الجهة التي يجب أن تضع حداً لشبكات المحاباة التي تربط بعض الرؤساء بالموردين وشركات الأقارب، وأن تنقل هذه الملفات من رفوف التفتيش إلى قاعات المحاكم. فالمغاربة لم يعودوا يقبلون أن يُختزل دور الداخلية في الوساطة البيروقراطية، بينما تنفلت من بين يديها فضائح تنخر الثقة في المؤسسات.

والحقيقة أن قضية “البذخ الجماعي” ليست معزولة. هي امتداد لبنية كاملة من التدبير المحلي الذي يفتقد الشفافية والنجاعة.

فحين تصير الجماعات منصات للزبونية، ويتحول المال العام إلى غنيمة، يصبح الحديث عن التنمية المحلية مجرد شعار أجوف. لهذا، فإن الحسم في هذه الملفات سيحدد، إلى حد بعيد، صورة الدولة أمام مواطنيها: إما أن يُرى القانون سيفاً مسلطاً على الجميع، أو مجرد ورق يُستهلك في الحملات الإعلامية.

البعد السياسي للأزمة

الخطورة ماشي فقط في ضياع الملايير من المال العام، بل في أثر هذه الفضائح على الثقة السياسية. فإذا كان الناخب يرى أن المنتخب المحلي يستعمل الجماعة كملكية خاصة، وأن وزارة الداخلية تكتفي بتبادل المراسلات دون محاسبة حقيقية، فإن صناديق الاقتراع المقبلة ستصبح مسرحاً للعزوف أكثر من أي وقت مضى. وهنا يكمن التهديد الاستراتيجي: ليس فقط في ضياع الصفقات، بل في ضياع الثقة، تلك الثقة التي بدونها لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن يقف على قدميه.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version