أصدرت المندوبية السامية للتخطيط، اليوم الثلاثاء، مذكرة جديدة تحمل عنوان “مكافحة الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، التنمية البشرية والمساواة بين الجنسين في المغرب: الإنجازات والتحديات”.
وجاءت هذه المذكرة محملة بأرقام تبدو للوهلة الأولى مبشرة: الفقر المدقع في المغرب قد أُعلن القضاء عليه عملياً، بعدما تراجعت نسبته إلى أقل من 0,3% سنة 2022، أي أن أقل من ثلاثة أفراد من كل ألف يعيشون بأقل من 1,9 دولار يومياً.
وبذلك، وحسب بروتوكول البنك الدولي، يكون المغرب قد بلغ الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة.
لكن ما حملته المذكرة في طياتها يذهب أبعد من هذا الاحتفاء الظاهري.
ففي التفاصيل، تعترف المندوبية بأن الفقر المطلق والهشاشة شهدا قفزات مثيرة للقلق بين 2019 و2022. عدد الفقراء تضاعف تقريباً ليتجاوز 1,42 مليون شخص، فيما ارتفع عدد الأسر الهشة من 2,6 مليون إلى 4,75 ملايين، أي ما يقارب ربع ساكنة المغرب. هذه ليست مجرد نسب باردة، بل تحولات اجتماعية عميقة تعكس صدمات الجائحة، التضخم، ووطأة الجفاف المتكرر.
الأخطر أن الخريطة الاجتماعية انقلبت رأساً على عقب: فبعدما كان الفقر لعقود يتمركز في القرى، أصبحت المدن اليوم فضاءً رئيسياً للهشاشة.
عدد الفقراء الحضريين تضاعف بأكثر من خمسة أضعاف في ظرف ثلاث سنوات فقط، وهو ما يترجم يومياً في الأسواق، في الكراء، وفي فواتير الماء والكهرباء. المواطن الحضري الذي كان يُصنف ضمن الطبقة المتوسطة يجد نفسه اليوم أقرب إلى خط الهشاشة.
المذكرة إذن تكشف عن ازدواجية في الخطاب: خطاب خارجي موجه إلى المنتظمات الدولية يرفع شعار “القضاء على الفقر المدقع”، وخطاب داخلي واقعي يعترف بعودة الفقر المطلق وتوسع دائرة الضعف الاجتماعي.
هذه المفارقة تثير سؤالاً جوهرياً: هل معيار 1,9 دولار كافٍ لقياس الكرامة الإنسانية؟ وهل يمكن للأرقام الأممية أن تعكس فعلاً حقيقة جيوب المغاربة التي تنهكها الأسعار وتثقلها الفواتير؟
الواقع أن المعركة لم تعد حول الأرقام وحدها، بل حول السياسات العمومية التي يفترض أن تترجم هذه المؤشرات إلى حلول ملموسة. دعم مباشر للفئات الهشة، إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية، إعادة النظر في المقاصة، وتوجيه الاستثمارات نحو الصحة والتعليم والتشغيل… كلها رهانات مصيرية إذا أراد المغرب أن يتجاوز منطق “النجاح الإحصائي” إلى بناء تماسك اجتماعي حقيقي.
اليوم، وفي ضوء مذكرة المندوبية، يبدو أن المغرب يقف بين صورتين متناقضتين: صورة براقة في تقارير التنمية المستدامة، وصورة أكثر قسوة في الأسواق الشعبية وأحياء المدن.
وبين هذين المستويين، يظل السؤال معلقاً: هل يكفي أن نقول للعالم إننا قضينا على الفقر المدقع، بينما المواطن نفسه يردد كل يوم: جيبي فارغ مهما امتلأت جداول الإحصاء بالأرقام؟