حسب مصادر إعلامية، أقدمت وزارة الاقتصاد والمالية على خطوة مثيرة للجدل بإطلاق برنامج تكويني جديد لموظفيها في اللغات الأجنبية والمهارات الناعمة، بكلفة تقارب 800 ألف درهم، أي ما يعادل 80 مليون سنتيم. برنامج يبدو على الورق خطوة لتقوية الكفاءات، لكنه سرعان ما أثار تساؤلات قاسية حول جدواه، ومغزى تخصيص اعتمادات مالية معتبرة لتكوين موظفين جرى اختيارهم أصلاً على أساس إتقانهم لتلك اللغات عند اجتيازهم مباريات التوظيف.

الوزارة، التي تُقصي كل مرشح لا يتقن الفرنسية أو الإنجليزية من ولوج قطاعها، وجدت نفسها اليوم في قلب مفارقة كبرى: فالموظفون الذين وُصفوا بأنهم النخبة اللغوية يحتاجون فجأة إلى دروس أساسية في الفرنسية والإنجليزية، بل وحتى الإسبانية.

وكأنّ بوابة التشغيل شيء، وبوابة الواقع الإداري شيء آخر، مع ما يرافق ذلك من إعادة ضخ المال العام في حلقات تكوينية يصعب قياس أثرها على مردودية المرفق العمومي.

المصادر نفسها لم تُخفِ شكوكها في أن يتحول هذا البرنامج إلى نسخة مكررة من برامج سابقة للتكوين العمومي التي استهلكت الملايين، من دون أن تقدم مؤشرات دقيقة عن انعكاسها على جودة الخدمات أو تحديث الإدارة.

فالمواطن، الذي يُطالب بالشفافية والنجاعة، لا يرى سوى فواتير تُسجَّل على الورق، بينما يبقى الأداء الإداري على حاله، أو في أفضل الأحوال، أسير الدورات والورشات التي لا يتجاوز أثرها حيطان قاعات التكوين.

المدافعون عن إدراج اللغة الإسبانية يستندون إلى ثِقل العلاقات الاقتصادية مع مدريد، غير أن الحاجة الفعلية إليها تظل ثانوية مقارنة بالموقع الاستراتيجي للفرنسية والإنجليزية في محيط العمل المالي.

ما يعزز الانطباع بأن إدخالها إلى البرنامج لم يكن نابعا من مطلب جوهري بقدر ما يعكس رغبة في توسيع العرض وإضفاء مسحة “دولية” على صفقة محلية.

أما الشركة المكلفة، IDEO Factory، التي تأسست سنة 2006، فتمتلك تجربة معتبرة في التكوين الرقمي، وترتبط منذ أزيد من 12 عاماً بشراكة مع مجموعة CEGOS العالمية.

لكن قوة الفاعل لا تُلغي جوهر التساؤلات: ما جدوى هذه البرامج إن لم تكن مصحوبة بمؤشرات صارمة لقياس أثرها؟ وأي منطق يحكم صرف 800 ألف درهم على دروس في اللغات لموظفين كان يُفترض أن يتميزوا فيها منذ لحظة توظيفهم؟

عند النظر إلى تجارب بلدان أخرى، تتضح المفارقة أكثر. ففي الاتحاد الأوروبي، يُلزم البرلمان الأوروبي بإجراء تقييم دوري لبرامج التكوين الممولة من الميزانية العامة، ويُقدَّم تقرير علني يحدد بالأرقام مدى انعكاس هذه البرامج على أداء الإدارة وكفاءة الموظفين.

بل إن بعض الدول الأوروبية تربط أي تمويل جديد بنتائج دقيقة ومقاسة من الدورات السابقة، حتى لا يتحول التكوين إلى حلقة مفرغة.

أما في كندا، فتُدار برامج التكوين العمومي بمنطق الاستثمار في الكفاءة: كل دورة تدريبية يجب أن تُثبت أنها حسّنت مؤشرات خدمة المواطن أو رفعت من الإنتاجية بنسبة ملموسة. وهكذا يصبح التكوين مشروعاً اقتصادياً له عائد محدد، لا مجرد بند إنفاق مفتوح.

بالمقارنة، يظهر أن السياق المغربي ما يزال يفتقر إلى هذه الشفافية الصارمة، حيث تُطلق البرامج، وتُعقد الصفقات، ثم يُطوى الملف دون مؤشرات أو تقارير عامة تبين للمواطن إن كان قد استفاد فعلاً من أمواله المستثمرة في تكوين موظفي الإدارة.

الخطورة، كما يحذّر المتتبعون، تكمن في أن تتحول هذه المبادرات إلى ما يشبه “التكوين الدائري”: ميزانيات تُضخ بانتظام في برامج للتكوين دون أن تتجسد على أرض الواقع في تحسن ملموس، فتُعاد الدورة من جديد بصفقات جديدة، وشركات منفذة أخرى، وموظفين آخرين، بينما يبقى المواطن آخر من يجني ثمار هذه الأموال التي تُقتطع أصلاً من جيبه.

إنها معضلة دولة تطالب شبابها بإتقان اللغات كي يُسمح لهم بولوج الوظائف، لكنها تعود لتصرف الملايين من المال العام لتلقين الموظفين أنفسهم أبجديات تلك اللغات. مفارقة تختزل ما يمكن تسميته بـ”سياسة التكوين بلا بوصلة”: شعارات كبرى، وفواتير ضخمة، وغياب تام لمؤشرات المردودية.

ولكي لا يتحول التكوين إلى مجرد صناعة للهدر، فإن الحاجة تبدو ملحّة لإرساء آلية تقييم مستقلة، قد يشرف عليها المجلس الأعلى للحسابات أو هيئة وطنية متخصصة، تتولى التدقيق في البرامج التكوينية قبل إطلاقها وبعد انتهائها.

فالمعايير يجب أن تكون صارمة: هل ارتفعت جودة الخدمة المقدمة للمواطن؟ هل تحسنت مؤشرات النجاعة؟ أم أنّ كل ما تغير هو الرصيد المالي للشركات المنفذة؟

من دون هذا التقييم الصارم، سيظل التكوين حلقة مفرغة تُعيد إنتاج نفسها، وتبقى الإدارة رهينة لشعارات الإصلاح، بينما يظل المواطن يطرح السؤال نفسه عند نهاية كل دورة: من المستفيد الحقيقي من هذه البرامج، الموظف أم المقاولة؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version