لم يكن ملايين المغاربة يتصورون أن الانتقال من نظام المساعدة الطبية “راميد” إلى التأمين الإجباري الجديد “أمو تضامن” سيحوّل ما بُشّر به كإصلاح تاريخي إلى مأساة يومية.
المشروع الذي قُدِّم باعتباره رافعة لـ “الدولة الاجتماعية” انقلب بسرعة إلى عبء ثقيل، بعدما وجد آلاف المرضى أنفسهم أمام مقصلة جديدة اسمها “المؤشر الاجتماعي والاقتصادي”، مؤشر يحاكم الفقراء بأدوات الاستهلاك لا بواقع العيش، ويحوّل الثلاجة القديمة والعداد الكهربائي إلى أدلة زائفة على اليسر.
لقد صار العلاج في المغرب بورصة للأرقام: من ارتفع مؤشره سقط من قائمة المستحقين، ولو كان يسكن غرفة رطبة في حي شعبي.
وهكذا تحوّلت خوارزمية باردة إلى قاضٍ يعزل الأرامل والعمال المتقاعدين عن الحق في الدواء، ويُدرجهم في خانة “الميسورين”، بينما جيوبهم خاوية وأجسادهم تنهكها الأمراض المزمنة.
في المستشفيات العمومية، يواجه المرضى معادلات قاسية: فواتير حصص تصفية الدم تتجاوز ثلاثة آلاف درهم، بينما معاشات الكثير منهم لا تبلغ نصف ذلك المبلغ.
والأنسولين صار أثمن من الخبز، حتى غدا بعض الأسر تختار بين سدّ الرمق أو شراء جرعة حياة. أي إصلاح هذا الذي يضع المريض بين خيار الدين أو خيار الموت البطيء؟
التجارب الدولية تكشف المفارقة الفادحة. في البرازيل، يحق لأكثر من 150 مليون مواطن الولوج إلى علاج مجاني رغم الأزمات الاقتصادية.
في تركيا، رُبطت التغطية الصحية بالتحويلات الاجتماعية حتى لا يُترك أفقر القرويين خارج النظام. في فرنسا، تكفلت الدولة بمبدأ “التكافؤ الصحي” حيث لا يُقصى أحد بسبب دخله.
المغرب، بالمقابل، رهن مستقبل الصحة بخوارزميات عمياء حولت العدالة الاجتماعية إلى حساب رياضي يفتقر للرحمة.
لقد صادقت الحكومة سنة 2023 على إدماج 11 مليون مغربي من “راميد” إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لكن ما أُدمج فعلياً هو الأرقام لا البشر.
فالنظام الجديد وسّع الهوة بين طبقة تتوجه إلى مصحات النخبة، وطبقة أخرى تقف عند أبواب المستشفيات العمومية تحمل أمراضها كما يحمل السجين قيوده.
الناشطون الحقوقيون يصفون الوضع بـ “الكارثة الصامتة”، حيث تضطر أسر فقيرة إلى بيع ما تبقى لها من ممتلكات أو الدخول في دوامة الديون.
الباحثون بدورهم يرون أن الدولة لم تنشئ نظاماً اجتماعياً بقدر ما ابتكرت جهازاً بيروقراطياً يعيد إنتاج الإقصاء في صيغة جديدة.
الدستور المغربي يضمن الحق في الصحة كحق أساسي، لكن المؤشر حوّله إلى امتياز معلّق على خيوط رفيعة.
أي معنى للدولة الاجتماعية إذا كانت الأرملة تُعتبر ميسورة لأنها تستهلك بعض الكهرباء في صيف خانق؟ وأي إصلاح هذا الذي يجعل الكرامة الإنسانية رهينة ملف ديون مفتوح في مكاتب المستشفيات؟
إن “أمو تضامن” في صورته الحالية ليس سوى مرآة لعجز السياسات الاجتماعية عن إدراك جوهر المعضلة.
المطلوب ليس مؤشرات صمّاء بل عدالة حقيقية: إبقاء الفئات الأكثر هشاشة تحت حماية مجانية مطلقة، وإشراك الفئات شبه الهشة في مساهمات رمزية تراعي قدراتهم الفعلية.
الإصلاح الصحي لا يُقاس بعدد الملفات المدمجة في الصندوق، بل بعدد الأرواح التي تُنقذ من مقصلة المرض.
وإلى أن يحدث ذلك، ستظل “الدولة الاجتماعية” مجرد شعار أجوف، يلمع في الخطب الرسمية بينما يذوي الفقراء في صمت.
