في السياسة، الكلمات ليست مجرد أصوات عابرة، بل مؤشرات على موازين القوى وحدود الممكن.
تصريح عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، حين قال قبل سنوات: “في السياسة اللي شاف شي شوفة خايبة والله لا جلست فيها… من غير جلالة الملك”، لم يكن مجرد زلة لسان أو مجاملة بروتوكولية، بل مرآة لثقافة سياسية تُعيد رسم خريطة السلطة في المغرب، وتضع الدستور في مواجهة الممارسة اليومية.
اليوم، ومع انفجار موجة احتجاجات غير مسبوقة يقودها شباب ما بات يُعرف بـ”جيل Z 212″، يعود هذا الكلام ليحمل معنى آخر: إذا كان الوزير يربط استمراره بالمنصب بنظرة “خايبة” أو “راضية”، فإن الحكومة برمتها تواجه الآن نظرة غاضبة من الشارع، رفعت سقف المطالب إلى حد الدعوة العلنية لاستقالة كاملة: “الحكومة تحط الاستقالة ديالها.”
الدستور المغربي، خاصة بعد تعديل 2011، أرسى قواعد مهمة: فالملك هو “رئيس الدولة وممثلها الأسمى والضامن لوحدتها واستمراريتها” (الفصل 42)، ويحتفظ بسلطات استراتيجية واسعة، من بينها تعيين الوزراء وإقالتهم بناءً على مقترح رئيس الحكومة (الفصل 47).
وفي المقابل، منح الدستور للحكومة اختصاصات تنفيذية وتشريعية واضحة، ورسّخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وفصل السلط.
لكنّ الواقع أظهر شيئاً آخر: فبدل أن تصبح الحكومة مسؤولة أمام الشعب والبرلمان، ظل جزء من النخبة السياسية يعتبر أن معيار البقاء أو الرحيل لا يُقاس بميزان الدستور ولا بصندوق الاقتراع، بل بمدى الانسجام مع المظلة الملكية.
وهنا تتجلى المفارقة: دستور متقدم في نصوصه، لكن ممارسته تذوب في ثقافة الولاء.
تصريح وهبي، على قدمه، أصبح اليوم كأنه حكم شامل على حكومة أخنوش: إذا كان الوزير يترك منصبه بمجرد “نظرة خايبة”، فما الذي يمنع حكومة بأكملها من الاستقالة بعدما وجدت نفسها أمام “نظرة الشارع” بكل ثقله وشرعيته؟ الاحتجاجات الحالية وضعت الحكومة في قلب عاصفة دستورية سياسية: فالشباب لم يطالبوا فقط بالخبز والشغل، بل استدعوا نصوص الدستور نفسها لرفع شعار: لا مسؤولية بدون محاسبة، ولا شرعية بدون استقالة.
هذا الوضع يعيد إنتاج مأزق النخبة الحزبية المغربية، التي لم تنجح في تجاوز عقلية “التعيين من فوق”، ولم تستطع أن تقدم للشارع برهاناً على أن المؤسسات التمثيلية قادرة على الاستجابة للغضب الشعبي.
لقد بدا واضحاً أن الاستقلالية السياسية للحكومة مجرّد واجهة، فيما القرار الفعلي يظل محكوماً بمعادلة الولاء أكثر من معادلة الديمقراطية.
بالنسبة للمراقب الدولي، فإن ما يجري اليوم في المغرب يقدّم صورة مركّبة: بلد بدستور متقدّم على الورق، واقتصاد صاعد في الأرقام، لكنه في المقابل يعيش أزمة ثقة سياسية عميقة.
حين يطالب الشارع برحيل حكومة كاملة، فهو يضع أمام الدولة سؤالاً محورياً: هل سيبقى الدستور وثيقة شكلية، أم سيتحول إلى آلية حقيقية لربط المسؤولية بالمحاسبة؟
كلمة قديمة لوزير العدل تحولت اليوم إلى عنوان لأزمة وطنية: حكومة بأكملها تواجه “شوفة خايبة” من الشارع.
إنها لحظة مفصلية تكشف أن الدستور ليس مجرد نص أنيق، بل أداة بيد الشعب للمطالبة بالمحاسبة.
لكن السؤال الذي يبقى مفتوحاً أمام المغرب والعالم: هل تتحول هذه اللحظة إلى بداية لإحياء الدستور فعلياً، أم ستبقى مجرد صرخة أخرى تُضاف إلى سجل الأزمات المؤجلة؟
