لم يكن ما جرى داخل مستشفى الحسن الثاني بأكادير حادثاً طبياً عادياً، بل لحظةَ انكشافٍ مؤلمة لمنظومةٍ تآكلت من الداخل، وتحولت فيها الأخطاء المهنية إلى انعكاسٍ لخللٍ أعمق في إدارة المال العام والحق في الحياة.
إعلان وزارة الصحة عن توقيفاتٍ على خلفية الوفيات الأخيرة بدا، في ظاهره، خطوةً تأديبية لتصحيح المسار، لكنه في العمق أشبه بمحاولةٍ يائسة لإغلاق الجرح قبل تنظيفه.

لم يكن البلاغ الوزاري سوى محاولة لتقليص أبعاد الزلزال الأخلاقي الذي ضرب المنظومة الصحية.
فحين تُعلن وزارة الصحة عن “توقيفاتٍ احترازية” وتُحيل التقرير على النيابة العامة دون أن تذكر الأسماء ولا طبيعة الأخطاء، فإنها لا تُمارس الشفافية بقدر ما تُمارس سياسة التخدير اللغوي.
لغةٌ مطمئنة منمقة تُخفي تحتها سؤالاً صريحاً: من الذي أخطأ فعلاً… الطبيب الذي يشتغل بلا تجهيزات، أم المسؤول الذي وقّع على صفقات المعدات الورقية؟

في أكادير، لم يسقط مستشفى فحسب، بل سقطت فكرة الدولة التي تداوي مواطنيها.
التوقيفات ليست حلاً، بل اعترافٌ ضمني بأن هناك موتاً إدارياً يسبق كل وفاةٍ سريرية.
فحين يتحول المستشفى العمومي إلى غرفة انتظار للموت، يصبح البلاغ الرسمي مجرّد ورقة نعيٍ مؤسساتية.

في بلاغها الرسمي، أكدت الوزارة أنها “استكملت التحقيقات وأحالت التقرير على النيابة العامة”، مشددةً على “حرصها على الشفافية وصون حقوق الأطراف.”
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا: أين هي الشفافية حين لا تُذكر أسماء الموقوفين، ولا تُحدد مسؤولياتهم، ولا يُعرض الرأي العام على تفاصيل الأخطاء التي أزهقت الأرواح؟

بلاغٌ بلا أسماء، ولا رتب إدارية، ولا توضيح لمدى جسامة الخطأ. هل يتعلق الأمر بأطباء، ممرضين، إداريين، أم بمسؤولين في المندوبية الإقليمية؟ الصمت هنا ليس حياداً، بل شكلٌ آخر من أشكال الحماية الإدارية، حيث يُقدَّم صغارُ الموظفين قرابينَ لطمأنة الشارع، بينما يظل الكبار في الظلّ ينتظرون عبور العاصفة.

منذ سنواتٍ طويلة، والمستشفى
ذاته في أكادير يُنذر بانفجارٍ كهذا. تقارير المجلس الأعلى للحسابات ونقابات القطاع الصحي كانت تصف وضعه بـ“المنهك” و“الخطير”.
لكن لا أحد تحرّك قبل أن يسقط المرضى فعلاً.
واليوم، حين انهارت الصمعة، كان الحل الأسهل هو تعليق الحجام أي أول من يمكن تحميله خطأً فردياً بدل الاعتراف بعطبٍ جماعي.

في الدول التي تحترم كرامة مواطنيها، تُعلن الحكومات قوائم المسؤولين الموقوفين بالأسماء والمهام، وتُفتح جلسات الاستماع العلنية، ويُقدَّم الوزراء أنفسهم للمساءلة البرلمانية والإعلامية.
أما في المغرب، فالتصريحات تُدار بلغة “المصطلحات العازلة”: “في إطار ورش الإصلاح الشامل”، “حرصاً على الشفافية”، “صوناً لحقوق الجميع.”
عبارات تُهدّئ السوق الإعلامي، لكنها لا تُعيد الثقة في المستشفى ولا في الدولة التي تُديره.

ما جرى في أكادير ليس مجرّد مأساةٍ محلية، بل جزء من سلسلة انهياراتٍ صامتة داخل قطاعٍ حيوي. حين يُضطر المواطن لأن يجمع المال من أجل شراء حقه في سريرٍ عمومي، وحين تُصبح غرفة الإنعاش حلماً، فالأزمة لم تعُد تقنية، بل سياسية بامتياز. جيل “زد”، الذي فجّر شرارة الاحتجاجات الأخيرة، لم يحتجّ فقط على وفاة مرضى، بل على موت الإحساس بالمسؤولية.
هو جيلٌ يطالب بأن يُحاسَب من يُهمل الإنسان كما يُحاسَب من يُخطئ في معادلةٍ مالية.

وحتى تُشفى المنظومة الصحية، لا يكفي أن يُعلّق الحجام ينبغي أن يُفتَح الملف من القمة إلى القاعدة، وأن تُسائل العدالة من رسموا السياسات لا من نُفّذت عليهم. فلا عدالة بلا أسماء، ولا إصلاح بلا شجاعة. وفي النهاية، يظل السؤال معلّقاً في هواء الوطن المريض: من يداوي الدولة حين يمرض ضميرها؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version