في مغربٍ يتقن إخفاء أرقامه كما يُتقن تلميع خطابه، ينفجر سؤال بسيط في وجه الجميع:
من التهم المليارات التي قيل إنها صُرفت لتحفيز الاستثمار في المصحات الخاصة؟
وزير الصحة خرج أمام الكاميرات ليعلن أنه “أوقف الدعم الموجَّه للمصحات الخاصة”.
بلاغ بدا حازمًا في شكله، لكنه تحوّل سريعًا إلى لغزٍ مالي حين بدأت تلك المصحات نفسها، من “أكديطال” إلى غيرها، تنفي استفادتها من أي درهم واحد من المال العمومي.
وما بين النفي الوزاري والنفي الطبي، ضاعت الحقيقة كما تضيع المليارات في متاهة الإدارات.
الفضيحة ليست في الصمت، بل في تعدد الصامتين.
فمن الطبيعي أن تبرر المصحات، ومن المتوقع أن يراوغ وزير الصحة،
لكن الغريب أن وزير المالية فوزي لقجع، الذي يُفترض أنه يعرف حركة كل سنتيم يخرج من الخزينة، يلوذ بصمتٍ أثقل من العجز نفسه.
هل يمكن لبلدٍ أن يصرف أموالًا عمومية بملايين الدراهم دون أن يعرف من استفاد منها؟
وهل تحوّل دعم الاستثمار إلى صندوقٍ أسود جديد في قطاعٍ يُفترض أنه شريان الحياة؟
منذ أسابيع، تتناسل البلاغات والتصريحات، وتتعاقب الوعود المطمئنة.
لكن الحقيقة تزداد وضوحًا كلما حاولوا تجميلها:
المال خرج… لكن أحدًا لا يعرف إلى أين.
أكديطال تقول إنها تموّل مشاريعها بمواردها الذاتية وقروضها البنكية.
وزير الصحة يقول إنه أوقف الدعم.
الوزارة تقول إنها أحالت الملف على لجانٍ تقنية.
والخازن العام، كعادته، لا يقول شيئًا.
كل ذلك يحدث في بلدٍ يتباهى بـ“الحكامة الجيدة” و“الشفافية المالية”،
بينما المواطن ما زال ينتظر سريرًا في المستشفى العمومي، وجرعة دواء لا تمرّ عبر صفقة.
القضية لم تعد مالية فحسب، بل أخلاقية بامتياز:
حين تُصرف المليارات باسم الصحة، ولا أحد يملك شجاعة الاعتراف أو التوضيح،
فنحن أمام ما هو أخطر من الفساد: نظام صمتٍ ممنهج، يُخفي العجز تحت عباءة البلاغات.
المسؤولية اليوم لا تقع على وزير الصحة وحده،
بل على وزير المالية فوزي لقجع، الذي يمسك بمفاتيح الخزينة.
فالبلاد لا تحتاج إلى خطابٍ جديد عن “إصلاح المنظومة”،
بل إلى كشف حسابٍ علني يعيد الثقة في الدولة قبل أن تفقدها نهائيًا.
ففي زمن الوعي الجديد، لم يعد المغاربة يصدقون الكلمات المنمقة،
بل يبحثون عن رقمٍ واحدٍ صادق.
والرقم، حين يُخفى، يصبح جريمةً مالية قبل أن يكون لغزًا إداريًا.
كأن المال العام دخل غرفة العمليات ولم يخرج منها.
الوزير خرج ببلاغ، والمصحات خرجت ببيان، والخازن العام غادر بصمته.
فمن بقي ليسأل الطبيب: هل المريض حيّ أم تحت التنفس الاصطناعي؟
هكذا تُدار الصحة في المغرب: المريض ينتظر العلاج، والمال ينتظر الحقيقة.
