حين يغيب الوزير، ويغضب الجيل، وتختنق الكلمة بين الصمت والخوف، يصبح السؤال نفسه وثيقة إدانة، لا مجرّد فضول صحفي.
جيل Z لم يخرج إلى الشارع ليطلب فتاتاً من الحقوق، بل ليطالب بحقه في دولةٍ لا تُدار بالمذكرات، بل بالمحاسبة.
درس في أقسامٍ مكتظة، تخرّج إلى بطالةٍ مفتوحة، فاكتشف أن “الإصلاح التربوي” في المغرب ليس سوى عنوان تجاري لتدوير المال العام في دوائر مغلقة.
جيلٌ كبر على وعود التنمية، واكتشف أن التنمية نفسها كانت درساً نظرياً في كتابٍ لا أحد قرأه.
وفي خضمّ هذا الغليان، يلوذ وزير التربية الوطنية بصمتٍ يشبه التواطؤ أكثر مما يشبه الحذر.
لا تصريح، لا مواجهة، لا اعتراف.
صمتٌ يثير الشك أكثر مما يثير الاحترام، لأن الرجل يعرف أن الكلمة في هذا التوقيت ليست موقفاً… بل التزام قانوني قد يفتح أبواب الأرقام الممنوعة.
منذ “زلة لسان” وزير الصحة عن دعم المصحات، صار الخوف من الخطأ أكبر من الرغبة في الشفافية.
وكل وزيرٍ بعد تلك الواقعة صار يقيس كلماته بمسطرة الخزينة:
كم تكلف الجملة؟ وكم تكشف من الحقيقة؟
الأسئلة في التعليم أخطر من أي قطاع آخر،
لأنّ المليارات تُصرف باسم “الإصلاح” و”الرقمنة” و”جودة التعلمات”،
لكن النتائج تكشف أن المدرسة العمومية لم تتقدّم خطوة، بل سُحبت منها الروح.
مدارس تتهاوى في القرى، أقسام بلا أساتذة، برامج رقمية وُلدت على الورق وماتت على الورق،
وشركات استشارات تتبدّل أسماؤها كل سنة لتظلّ الأرقام نفسها تتكرّر في ميزانيات الوزارة.
الدعم موجود لكنّه لا يصل.
يتبخر بين دروب الصفقات والوساطات، بين “اللجان التقنية” و”المكاتب المتخصصة”.
يتحوّل إلى ندواتٍ وفنادق وورشات لا يراها التلميذ، ولا يلمسها الأستاذ.
حتى صارت كلمة “دعم التعليم” مرادفاً دبلوماسياً لـ”تمويل غير قابل للتتبع”.
خارطة الطريق 2022-2026، التي بُشّر بها كمشروع للنهضة، تحوّلت إلى خارطة نفقات،
أرقام فلكية ومشاريع ورقية،
بينما المدرسة الواقعية تغرق في وحلٍ إداري يجمّل الفشل ببلاغاتٍ لغويةٍ أنيقة.
تقارير المجلس الأعلى للحسابات لم تعد تُقرأ إلا كأدبٍ بيروقراطي،
تُسجّل الملاحظات وتُنسى كما تُنسى أسماء المدارس التي سقطت جدرانها.
لا أحد يجرؤ على السؤال، لأن السؤال نفسه يُعدّ تهديداً للنظام المالي الموازي داخل التعليم.
الوزير الغائب لا يهرب من الكاميرا فقط، بل من مرآةٍ قد تعكس وجهه الحقيقي:
وزيرٌ بلا قرار، يدير أكبر ميزانيةٍ اجتماعية بأصابعٍ غير مرئية.
يفضّل الحضور في الاحتفالات على المثول أمام البرلمان،
ويظن أن الصمت يُنقذ حين تكون الحقيقة نفسها تنطق من جدران المدارس.
جيل Z خرج من تلك الجدران ليطالب بشيء بسيط وعظيم:
“نريد عدالة، لا دروساً في الصبر.”
صمته لم يعد سياسة، بل إدانة.
ومن يختبئ اليوم خلف البلاغات، سيجد نفسه غداً في مواجهة جيلٍ يملك أدوات المحاسبة،
جيلٌ لا يحتاج إلى لجان تقصي، بل إلى ذاكرة رقمية تحفظ كل وعدٍ وميزانيةٍ وخطاب.
الفصل 154 من الدستور لا يترك مجالاً للتأويل:
كل مرفقٍ عمومي يخضع للمحاسبة والشفافية.
لكن حين تصبح الشفافية نفسها مجرّد شعارٍ لتبرير الغموض، نكون أمام اختلال دستوري مغلّف ببلاغاتٍ تقنية.
الوزير، وفق القانون الإداري، مسؤول عن المال العام سواء وقّع أم لم يوقّع.
مسؤول عن حسن التدبير، وعن تبرير كل درهم خرج من الخزينة باسم التعليم.
لكن الغياب في لحظة الغليان لا يُسمّى انشغالاً، بل إخلالاً بالواجب السياسي.
والمغرب الذي رفع شعار “ربط المسؤولية بالمحاسبة” لن يُقنع الأجيال الجديدة بمجرد خطاب.
فجيل Z لا يقرأ البلاغات، بل يقرأ الميزانيات.
ولا ينتظر الوعود، بل ينتظر كشف الحساب.
حين يتحوّل المال العام إلى “دعم مجهول الوجهة”، ويصبح الصمت لغة رسمية،
تتحوّل المدرسة إلى مرآةٍ لا تعكس فشل التعليم فقط، بل أزمة الضمير في تدبير الوطن.
وحين يصبح التعليم صندوقاً أسود للدولة، تصير الأرقام لغةً للتمويه لا للحقيقة،
ويتحول الوزير إلى شاهدٍ صامتٍ على انهيارٍ بطيء.
لكنّ التاريخ، مهما طال صبره، لا يرحم من أخفى الحقيقة خلف البلاغ.
جيل Z كتب الدرس الأخير:
من يعلّم الأجيال معنى الوطن، يجب أولاً أن يتقن درس المحاسبة.
