من المعارضة الأخلاقية إلى الولاء الحذر، يتحوّل حزب العدالة والتنمية من صوتٍ للغضب الشعبي إلى مؤسسةٍ تُجيد الصمت أكثر مما تُجيد القول.

لحظة سياسية تختزل المسافة بين زمنين داخل حزب العدالة والتنمية: زمن الجرأة وزمن الحذر.
عبد الإله بن كيران، الأمين العام للحزب، وجّه توجيهًا صارمًا لأعضائه يحذّرهم من التوقيع على رسالةٍ مفتوحة وُجّهت إلى جلالة الملك تحت عنوان: “دعماً لحركة GenZ212.. حان وقت التحرك في العمق”.
بلاغه بدا شكليًا في لغته، لكنه محمّلٌ بإشاراتٍ عميقة إلى تحوّل الحزب من معارضٍ صدامي إلى فاعلٍ متوجّس يزن كلماته بميزان الولاء.

الرسالة التي وقّعها القيادي عبد العزيز أفتاتي بصفته الشخصية فجّرت داخل الحزب نقاشًا حول الحدود بين الالتزام والانفلات، بين التعبير الفردي والانضباط الجماعي.
غير أن ردّ ابن كيران لم يكن مجرد تصحيحٍ تنظيمي، بل بيان ولاءٍ سياسيٍ ناعم، يؤكد أن الحزب يفضّل اليوم البقاء في “منطقة الأمان” بدل المغامرة بإزعاج السلطة أو الانخراط في موجة الشباب الغاضب.

المفارقة أن الحزب الذي كان يوقّع بياناته ذات يوم بمداد المعارضة، صار يخاف من توقيع أحد أعضائه؛ وأن الزعيم الذي بنى مجده السياسي على جرأة الكلمة، عاد اليوم إلى خطابٍ يختار الحذر كفضيلةٍ جديدة.
من حزبٍ كان يتحدث بلسان الشارع، إلى حزبٍ يراقب الشارع من بعيد ويتجنّب الاقتراب منه… هكذا تغيّر العدالة والتنمية، وهكذا غيّر الخوف موقعه من الدولة إلى داخل الحزب نفسه.

حركة GenZ212 لم تفتح فقط نقاشًا حول العدالة الاجتماعية، بل أطلقت زلزالًا صامتًا في خرائط التمثيل السياسي.
جيلٌ بلا انتماء حزبي، بلا ترخيصٍ ولا لجان، يفرض لغته على من اعتادوا احتكار الكلام باسم الشعب.
وحين يهرع زعيمٌ سياسي لتوضيح موقفه من توقيعٍ فردي، فذلك لا يعني فقط الانضباط، بل اعترافًا غير معلنٍ بأن مركز الثقل السياسي بدأ يتحرّك خارج الأطر التقليدية.

ابن كيران، الذي قال يومًا إن “الكلمة الحق قد تُغضب لكنها لا تُخيف”، كتب هذه المرة بلاغًا يخفي فيه الخوف خلف الانضباط.
وربما لا يخاف من السلطة، بل من التاريخ الذي يسجّل كيف يتحوّل الزعيم الذي تحدّث باسم الناس إلى زعيمٍ يخاف من أصواتهم.
إنها مفارقة السياسة حين تُفقدها السلطة شجاعتها: الحزب الذي علّم الناس معنى الجرأة، أصبح اليوم يتعلّم منهم معنى الشجاعة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version