انعقد مجلس الحكومة المغربية يوم الخميس 9 أكتوبر 2025، برئاسة السيد عزيز أخنوش، في لقاءٍ جديد يندرج ضمن ما أصبح طقسًا سياسيًا أسبوعيًا تُفتتح به البلاغات وتُختتم به الوعود.
فكل خميس، تُعلن الحكومة “إصلاحاتٍ” جديدة، لكنها سرعان ما تتبدّد في اللغة نفسها التي وُلدت منها: لغةٌ مُحكمة في صياغتها، فارغة في أثرها.

يبدأ البلاغ عادةً بعبارةٍ مألوفة: “تدارس مجلس الحكومة وصادق على…”؛ ليُدخل القارئ في طمأنينةٍ شكليةٍ تُخفي تحتها ركودًا عميقًا.
وهذا الأسبوع، لم يخرج النص عن القاعدة.
حديثٌ عن التنمية المستدامة، وعن العدالة التجارية، وعن الثقافة، وعن الصناعة…
لكن في كل هذه العناوين المتنوعة، يبرز قاسمٌ واحد: الإصلاح في المغرب تحوّل إلى إدارةٍ لغويةٍ أكثر منه سياسةً عمومية.

قدّمت وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، ليلى بنعلي، عرضًا حول النسخة الجديدة من الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2035، وهي خطة قديمة تعود اليوم بثوبٍ جديد.
تتحدث الوزيرة عن “التحول العادل والمستدام”، وكأنّ الكلمات وحدها قادرة على تحويل الواقع.
فالاستراتيجية، التي انطلقت منذ ثمان سنوات، ما زالت حبيسة البلاغات الرسمية، تُحدَّث في الصياغة أكثر مما تُحدَّث في المضمون.
إنها أشبه بتمرينٍ لغويٍّ متقنٍ يُراد له أن يُخفي حقيقةً مرّة: أن التنمية في المغرب ما تزال فكرة مؤجلة، تتغيّر عناوينها ولا يتغيّر أثرها.

وفي المجال القانوني، صادق المجلس على مشروع تعديل مدونة التجارة المتعلق بنظام الشيكات بدون رصيد، قدّمه وزير العدل عبد اللطيف وهبي، تحت عنوان “تحسين بيئة الأعمال وتشجيع التسوية”.
لكن ما يُقدَّم في البلاغ كإصلاحٍ تقنيٍّ هو في جوهره تسويةٌ سياسيةٌ مع واقعٍ اقتصاديٍّ متعثر.
فالقانون الجديد يفتح الباب أمام مساهمةٍ ماليةٍ تُخفف العقوبات، في ما يشبه عفوًا ماليًا غير معلن، يُريح المخالفين أكثر مما يُعيد الثقة للنظام البنكي.
بهذا المعنى، يُصبح القانون مرآةً أخرى لما يمكن تسميته “إصلاحًا يُراعي الميسورين ويُربك المستضعفين”.

وفي الجانب الثقافي، أقرّ المجلس مرسومًا لإعادة تنظيم المعهد الوطني للفنون الجميلة، قدّمه وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد.
خطوة تبدو أكاديمية في ظاهرها، لكنها تكشف عن مأزقٍ أعمق في الرؤية الثقافية الرسمية.
فالفن، في المغرب، ما زال يُعامل كزخرفةٍ إدارية لا كقوةٍ فكرية قادرة على التأثير.
الحديث عن “نظام الأرصدة الجامعية” و”تحديث التكوين” يظلّ بلا أثر ما دامت الثقافة تُدار كقطاعٍ ثانويٍّ، لا كرافعةٍ من روافع التحول المجتمعي.
ذلك أن الإبداع لا يحتاج إلى مرسومٍ جديد، بل إلى فلسفةٍ تُدرك أن النهضة لا تبدأ من المشاريع الكبرى، بل من إعادة الاعتبار للفكر والجمال والمعنى.

أما المرسوم المتعلق بمؤسسات الرعاية الاجتماعية، الذي قدّمته الوزيرة ناعمة ابن يعقوب، فيكشف بدوره عن الوجه البارد للسياسات الاجتماعية.
فبدل أن تكون الرعاية مشروعًا للعدالة والكرامة، تُختزل اليوم في نماذجَ وتصاريحَ وأذوناتٍ إدارية.
الإنسان، في هذا المنطق، يصبح ملفًا أكثر منه قضية، والمجتمع يُدار كما تُدار المصالح، بأختامٍ أكثر من القيم.

ثم يأتي الدور على الاقتصاد، حيث صادق المجلس على إحداث منطقتين جديدتين للتسريع الصناعي بفاس نسودة والصخيرات.
قرارٌ يبدو في ظاهره خطوةً نحو تعزيز الاستثمار، لكنه في جوهره إعادة إنتاجٍ للنمط نفسه الذي يكرّر نفسه من جهةٍ إلى أخرى.
نفس القطاعات، نفس الشعارات، نفس وعود التشغيل.
يتغير الموقع وتبقى النتيجة معلّقة، كما لو أن التنمية في المغرب لا تتحرك إلا على الورق.
إنها “سياسة النسخ واللصق”، حيث تتحول الصناعة إلى خطابٍ أكثر منها واقعًا، وتتحول المشاريع الكبرى إلى صيغٍ جاهزة تُستنسخ دون تقييمٍ أو مراجعة.

وفي نهاية البلاغ، تُغلق الحكومة محضر اجتماعها بنفس الهدوء الذي بدأت به، مطمئنةً إلى أن اللغة وحدها كافية لتمرير الزمن السياسي.
لكن خلف ذلك الانضباط اللغوي المكرور، تتكشّف ملامح أزمةٍ أعمق: أزمةُ رؤيةٍ تُبدع في التفاصيل وتضيع في الاتجاه.
فالإصلاح لم يعد فعلًا سياسيًا، بل طقسًا إداريًا يُمارس بانتظامٍ شبه ديني، كل خميس، بلا مساءلةٍ ولا أثر.
يُعلن الوزراء عن قراراتٍ جديدة كما يُعلن المذيعون عن حالة الطقس: بنفس الدقة، ونفس الرتابة، ونفس اللاجدوى.

وهكذا، يتحوّل بلاغ مجلس الحكومة إلى مرآةٍ لأسلوب حكمٍ كامل، يُفضّل الاستقرار اللغوي على المغامرة بالتغيير.
تتحدث الحكومة عن المستقبل بلغة الماضي، وتعد بالتحول وهي تراوح مكانها.
تُبدّل العناوين وتُبقي المعاني على حالها.
إنه الإصلاح الذي أصبح بروتوكولًا أسبوعيًا ونسخةً جديدةً من سياسة النسخ، حيث تُدار الدولة بالصياغة بدل القرار، ويُصاغ الواقع بلغةٍ لا تعرف التحوّل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version