يدخل المغرب مرحلةً جديدة من تاريخه السياسي، مرحلة تُقاس فيها شرعية المؤسسات بقدرتها على الإنجاز لا ببلاغاتها.
وفي افتتاح السنة التشريعية الأخيرة للبرلمان، قدّم الملك محمد السادس تصوّرًا متكاملًا لتحوّلٍ هادئ في فلسفة الحكم، مرتكزًا على فكرة واحدة جامعة:

التنمية ليست وعودًا، بل نتائج.

بهذه الصيغة المكثّفة والمحمّلة بالدلالات، أعلن العاهل المغربي نهاية زمن “الإنجاز بالتصفيق”، وبداية زمن “الإنجاز بالأثر”.

من الخطاب إلى المحاسبة

لم يكن الخطاب الملكي افتتاحيًا بالمفهوم البروتوكولي، بل وثيقة سياسية تؤسس لمرحلة “الحكامة المحاسِبة”.
وحين يذكّر جلالة الملك البرلمانيين بأن “السنة الأخيرة يجب أن تُكرّس للجدّية والمسؤولية”، فالمقصود ليس التحفيز على الاجتهاد بقدر ما هو تنبيه إلى بطء التنفيذ وتراجع المردودية.
أما دعوته إلى “محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات”، فهي إعلانٌ صريح عن نهاية التهاون البيروقراطي.
هنا ينتقل الخطاب من لغة الإصلاح إلى لغة التقييم، ومن الوعود إلى المساءلة الهادئة.

العدالة المجالية… من شعارٍ اجتماعي إلى سياسة بقاء

في خضم المشاريع الكبرى التي تعرفها البلاد، شدّد الملك على أن العدالة الاجتماعية والمجالية “ليست شعارًا فارغًا، بل رهانًا مصيريًا”.
عبارة تختزل التحول من التنمية كسياسة ظرفية إلى العدالة كخيارٍ وجودي.
فالفوارق الجهوية لم تعد خللًا اقتصاديًا فحسب، بل تحدٍّ سياسي يمسّ تماسك الأمة نفسها.
وحين يتحدث الملك عن الجبال والواحات والمراكز القروية، فهو لا يرسم تضاريس جغرافية، بل يعيد رسم حدود المواطنة.
إنها خريطةٌ جديدة لمغربٍ متوازن، حيث لا يبقى سكان الأطراف متفرجين على التنمية، بل شركاء في صنعها.

من الخطط إلى الأثر… الرقمنة كأداة للحكم

حين دعا الملك إلى “تغيير العقليات وطريقة العمل، وبناء السياسات على معطياتٍ ميدانية دقيقة باستعمال التكنولوجيا الرقمية”، فقد لخّص التحوّل الجديد في فكر الدولة المغربية.
لم تعُد الرقمنة تحديثًا إداريًا، بل أداةً للشفافية والمساءلة.
الأرقام لم تعد مجرد مؤشرات، بل مرآة أخلاقية للأثر:

مواطنٌ يعرف أين تُصرف أمواله، ومؤسسات تُقاس بكفاءتها لا بخطابها.

بهذا المعنى، تتحوّل الرقمنة إلى ضميرٍ جديد للحكامة، يربط بين التقنية والأخلاق، بين الفعل والمصداقية.

أزمة الوساطة… حين يضطر الملك إلى تفسير الدولة

إحدى أقوى لحظات الخطاب كانت تحميل الأحزاب والإعلام والمجتمع المدني مسؤولية “تأطير المواطنين والتعريف بالقرارات العمومية”.
جملة بسيطة، لكنها تفضح أزمةً عميقة: الدولة لم تعد تجد وسطاء يشرحونها لمواطنيها.
الأحزاب غارقة في حساباتها، والإعلام فقد جرأته التحليلية، والمجتمع المدني انشغل بالتمويل بدل التوعية.
ومن هنا، جاء الخطاب بمثابة نداء لإحياء السياسة في معناها النبيل: أن تكون المشاركة فعل وعي، لا مجرد حضورٍ انتخابي.

الملكية كإصلاحٍ دائم

في اتساقٍ مع خطب العرش السابقة، واصل الملك ترسيخ مفهوم “المغرب الصاعد” كمشروعٍ وطني يتجاوز الزمن الحكومي.
الملكية هنا ليست سلطةً تُعاقب أو تُدير، بل مؤسسة إصلاحٍ دائم تصحّح المسار دون صدامٍ مع البنية.
فلسفة الحكم المغربي أصبحت قائمة على الاستمرارية الذكية:
إصلاحٌ تدريجي طويل النفس، يُبدّل العقليات لا الرموز، ويُغيّر المنهج دون هدم المؤسسات.
ولهذا يمكن تلخيص الرسالة الملكية في عبارة واحدة:

المغرب لا يحتاج إلى ثورة جديدة، بل إلى كفاءة جديدة.

من السياسة إلى الأخلاق العمومية

حين ختم الملك خطابه بالآية الكريمة:

“فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.”

لم يكن المقصود بعدًا دينيًا خالصًا، بل تذكيرًا بأن السياسة لا تستقيم دون ضمير.
فالآية تختصر روح الإصلاح كما يراها الملك: أن تُمارس المسؤولية كقيمة أخلاقية لا كموقع إداري.
وفي زمنٍ تختنق فيه السياسة بالأرقام، يُعيد الملك السياسة إلى معناها الإنساني: أن تكون خدمةً عامة لا سباقًا على الواجهة.

خاتمة: من دولة البلاغات إلى دولة النتائج

الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان المغربي يُجسّد تحوّلًا فكريًا عميقًا داخل نموذج الدولة:
من دولةٍ تتحدث عن التنمية، إلى دولةٍ تُطالب بنتائجها.
ومن سلطةٍ تُصدر التعليمات، إلى سلطةٍ تُقيّم الأداء.
ومن إصلاحٍ يُدار بالمراسيم، إلى إصلاحٍ يُدار بالضمير.

في زمنٍ عربيٍ مضطرب، يقدّم المغرب نموذجًا فريدًا للاستقرار القائم على العقلانية الإصلاحية والرقابة الأخلاقية للسلطة.
ذلك هو جوهر “المغرب الصاعد” كما أراده الملك: دولة لا تتغيّر بقرارٍ فوقي، بل بنضجٍ جماعي في الفعل والفكر.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version