المغرب يركض خلف المونديال كأنه الخلاص.
الصورة من بعيد براقة: ملاعب تلمع، ورايات تُرفع، وكاميرات تُصفّق.
لكن خلف البريق، وطن يلهث تحت أنقاض التفاصيل… مدارس تُغلق نوافذها على العجز، ومستشفيات تُنقذ الأرواح بالصدفة، ومشاريع تُشيَّد لتُعرض لا لتُخدم.
هكذا تتجلى المفارقة التي صاغها فوزي لقجع بدقّة حسابية، حيث تتحوّل الأرقام إلى بطولة، والميزانيات إلى مدرجاتٍ من وهمٍ مُنمّق، بينما الإنسان يُترك خارج اللعبة.

من أكادير إلى الدار البيضاء فالرباط، لم تعد الملاعب مجرّد فضاءات للفرجة، بل مرآةً تكشف عُمق الأزمة الاجتماعية في المغرب.
ذاك ما رصدته صحيفة ليكيب الفرنسية في ربورتاجها الأخير بعنوان «كرة القدم، قلب المغرب»، حين التقت بين رمزية العشب الأخضر ورمادية غرف الإنعاش في مستشفى الحسن الثاني بأكادير.

حي إنزكان الشعبي قرب أكادير يحتفظ بذاكرته الخاصة للغضب.
الجدران ما زالت تنطق بشعارٍ صار أيقونة:

“سئمنا من الملاعب… نريد مستشفيات.”
عبارة موجزة تختصر كل ما يُقال في المؤتمرات والبيانات الرسمية.
فالبلد الذي يُشيّد الملاعب باليورو، يرمّم المستشفيات بالطلاء.

المستشفى الذي تحوّل إلى رمز للغضب الشعبي بعد وفاة تسع نساء أثناء الولادة، يجسّد التناقض الفادح بين طموح الدولة نحو المونديال وعجزها عن إنقاذ حياة واحدة.
العمال يرمّمون الواجهة تحت أنظار الأمن، بينما الداخل يئنّ: ممراتٌ تُنذر بالموت أكثر مما تعد بالعلاج.

في الجهة المقابلة، تواصل الدولة سباقها الزمني نحو الأضواء: نهائي كأس إفريقيا 2025 ثم مونديال 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال.
الأرقام تتحدث بثقة ملعب مولاي الحسن بالرباط وحده كلّف 80 مليون يورو لكنها تصمت حين يُطرح السؤال البسيط: كم مستشفى بُني بالمبلغ نفسه؟

تقول الباحثة السياسية نادية الهاشمي العلوي إن المغرب يبدو كدولةٍ “قوية في تنظيم الأحداث الكبرى، ضعيفة في تنظيم الخدمات الصغيرة”.
وتضيف: “الاستثمار في الرياضة صار مرآةً لا تُجمّل الصورة، بل تفضحها.”

أما فوزي لقجع، بصفته رئيس الجامعة ووزير الميزانية في الوقت نفسه، فيواصل ترديد جملته المفضلة:

“المغرب هو الخطة أ، المغرب هو الخطة ب، والمغرب هو الخطة ج.”
جملة تختصر فلسفة كاملة:
حين تُدار البلاد بالمنطق نفسه الذي تُدار به المنافسات الرياضية، تصبح الأرقام بديلاً عن العدالة، والبريق بديلاً عن السياسة.

السلطة المزدوجة التي يمسك بها لقجع سلطة الكرة وسلطة المال العام جعلت من الرياضة مشروع دولةٍ موازٍ.
ملاعب تُبنى بسرعة قياسية، وشعارات عن “التحول الكبير”، بينما الواقع الاجتماعي يتحرك في الاتجاه المعاكس.
سياسة تمزج بين التمويل الرياضي والخطاب التنموي، فتُنتج مشهدًا فخمًا في الخارج، هشًا في الداخل؛
بلدٌ يلمع على الشاشات ويئنّ في المستشفيات.

حتى نجوم المنتخب لم يبقوا على الحياد.
كتب نايف أكرد على إنستغرام: “كل هذه المطالب مشروعة، وتعبر عن حبٍّ للوطن.”
وغرد عز الدين أوناحي:

“الملاعب جاهزة… لكن أين المستشفيات؟”
ردّ عليه ياسين بونو ببساطةٍ شديدة: “نحن مع مطالب الشباب، لأننا جزء من هذا المجتمع.”
كلمات صادقة تحوّلت إلى بيان اجتماعي غير معلن، صادرٍ من القلب قبل المؤسسة.

الشارع بدوره يختصر المفارقة في صورةٍ واحدة:
“العدالة… قبل الأهداف.”
“المستشفى… قبل المونديال.”

عالم الاجتماع عبد الرحيم بورقية يرى أن كرة القدم في المغرب “لم تعد مجرد رياضة، بل صارت لغة جماعية للكرامة، ومساحة للتعبير حين تسكت المؤسسات”.
ويضيف: “النجاح الرياضي لا يُخفي الفشل الاجتماعي، بل يُسلّط الضوء عليه أكثر. الفرح لحظة، والغضب حالة.”

بين تصفيقات المدرجات وصمت قاعات المستشفيات، يتشكّل وجه مغربٍ جديد:
بلدٌ يملك القدرة على تنظيم المونديال، لكنه لم يجد بعد وصفة لتنظيم العدالة الاجتماعية.
وحين تصبح كرة القدم المرآة الوحيدة التي يرى فيها المجتمع نفسه، فذلك لأن بقية المرايا… قد تحطّمت.

ولأن لقجع جعل من “الجاهزية” شعارًا رسميًا، صار السؤال اليوم أكبر من الرياضة:
هل نحن مستعدّون فعلاً لتنظيم كأس العالم… أم فقط مستعدّون لإخفاء واقعٍ لا يُعرض في التلفاز؟
ذلك هو جوهر السياسة التي تُلمّع العشب وتترك الإنسان في العراء.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version