لم يعد حزب التقدم والاشتراكية يُشبه تاريخه ولا لغته الأولى.
الحزب الذي خرج من رحم الحركة الشيوعية المغربية، وصنع مجده من معارك الكرامة والعدالة الاجتماعية، صار اليوم يعيش على إيقاع عبارةٍ فلتت من لسان أمينه العام نبيل بنعبد الله، في مقطعٍ متداولٍ على مواقع التواصل الاجتماعي قال فيه بالحرف: “دوزوا الناس واللي جا عفط على مو.”
كانت لحظة صدقٍ فجّة، تحوّلت في رمشة عين إلى لحظة سقوطٍ سياسي وأخلاقي، كشفت حجم التحوّل العميق الذي أصاب حزبًا كان يُفترض أن يكون ضمير اليسار المغربي، فإذا به يتحوّل إلى مرآةٍ لأزمته الأخلاقية والتنظيمية.

نبيل بنعبد الله لم يعد مجرّد أمينٍ عام، بل حالةً سياسية تختزل جيلًا شاخ في المناصب، يبدّل الخطاب ولا يبدّل العقليات.
فمن “رفيق القصر” إلى “معارضٍ ناعم”، رسم مسارًا متقلبًا بين السلطة والمعارضة، لكن الثابت الوحيد هو بقاؤه على رأس الحزب لأكثر من عقدين، في مشهدٍ يُلخّص أزمة الديمقراطية الداخلية التي تخنق الحياة الحزبية في المغرب.
تصريحه الأخير، مهما حاول البعض تبريره، لا يسيء فقط إلى صورة الحزب، بل يُعرّي واقعًا سياسيًا مريضًا، حيث تحوّلت الأحزاب إلى آلاتٍ انتخابية بلا هوية، وابتعدت عن جوهرها الفكري والأخلاقي.
وحين يتحدث زعيم حزبي بهذا القدر من التهكّم عن الناس، فهو لا يخطئ في اللغة فحسب، بل يكشف ذهنيةً سياسيةً متعالية على المجتمع، تُحوّل الفعل النضالي من التزامٍ وطني إلى امتيازٍ طبقي، ومن صوتٍ للمقهورين إلى مرآةٍ لغطرسة النخب.

قضية نبيل بنعبد الله ليست زلة لسانٍ عابرة كما يحاول أنصارُه الإيحاء بذلك، بل عرضٌ من أعراض خللٍ بنيويٍّ في المشهد الحزبي المغربي.
زعماء يرفضون التقاعد السياسي، وأحزابٌ تحوّلت إلى شركاتٍ للولاء، وقياداتٌ تختبئ خلف “الرمزية التاريخية” لتفادي المحاسبة والتجديد.
اليسار الذي كان يُؤطّر الشارع صار اليوم يُؤطّر تصريحاته، يخشى الغضب أكثر مما يُعبّر عنه، ويخاف التجديد أكثر مما يدعو إليه.
لقد تحوّل من حاملٍ لأحلام العدالة الاجتماعية إلى حارسٍ لمقاعد محدودة، ومن صوتٍ للطبقات المهمشة إلى صدى باهتٍ لخطابٍ فقد معناه.

في المغرب، لم تعد الأزمة أزمة أفكار، بل أزمة رجالٍ لا يريدون المغادرة.
وحين يصبح الأمين العام عنوانًا للخطأ لا للبديل، وحين تختزل الحركة اليسارية في شخصٍ يجرّ التاريخ وراءه بدل أن يدفعه إلى الأمام، تكون المعركة الحقيقية قد تجاوزت الخصومة مع خصوم الحزب، لتتحوّل إلى مواجهةٍ مع من صادر روحه باسم الشرعية التاريخية.
إنها ليست نهاية حزبٍ فحسب، بل نهاية معنى كامل للنضال حين يتحوّل إلى امتيازٍ شخصيٍّ يختبئ وراء ذاكرةٍ منتهية الصلاحية.
وحين يسقط اليسار من فمه قبل أن يسقط من تاريخه، نكتشف أن اللغة أيضًا يمكن أن تخون الثورة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version