في خطوةٍ جديدة لإحياء ملف الذاكرة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، نظّمت التنسيقية المغربية لقدماء المعتقلين الإسلاميين السابقين ندوةً وطنية أشرفت عليها تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية، خُصّصت لشهادات ضحايا التعذيب خلال سنوات الاعتقال، في محاولةٍ لإعادة فتح النقاش حول الإنصاف وجبر الضرر وردّ الاعتبار.

اللقاء الذي حضره عدد من الفاعلين الحقوقيين وأسر المعتقلين السابقين، أعاد إلى الواجهة أصواتًا طالها الصمت لعقود، وكشف من خلال الشهادات حجم المأساة التي عاشها الضحايا داخل مراكز الاحتجاز، كما أعاد طرح سؤال المصالحة والعدالة الانتقالية في ظلّ ما يصفه المشاركون بـ«التراجع الرسمي عن الالتزامات السابقة» في هذا الملف الشائك.

في هذا السياق، أجرت «Crash Siyasi» حوارًا مع رئيس التنسيقية الوطنية للمعتقلين القدماء، السيد مصطفى كريمي، الذي تحدّث بصدقٍ نادر عن دوافع تنظيم الندوة ومضامين الشهادات، وعن وجعٍ ما زال مفتوحًا رغم مرور الزمن.

يقول كريمي إن الدافع الحقيقي وراء تنظيم الندوة هو إعادة إحياء ملف المعتقلين الإسلاميين السابقين الذي دُفن لسنواتٍ طويلة في صمتٍ مقصود.

ويضيف: «لقد شعرنا بأن الوقت قد حان لإخراجه من الظل إلى النور، خاصة في ظل استمرار معاناة المعتقلين وعائلاتهم وحرمانهم من حقهم المشروع في جبر الضرر وإعادة الإدماج الاجتماعي والمهني.

الندوة، في نظرنا، لم تكن مجرّد لقاءٍ رمزي، بل صرخة جماعية من أجل الاعتراف والمصالحة الحقيقية، بعيدًا عن الانتقائية أو التجاهل، لأن الإنصاف لا يُجزّأ، والذاكرة لا تُختزل في ملفاتٍ إدارية».

ويُوضح كريمي أنّ التنسيقية اعتمدت، في إعداد الندوة، على شهاداتٍ تطوّعية لمعتقلين سابقين امتلكوا شجاعة البوح مجددًا رغم ما يرافق ذلك من ألمٍ نفسيٍّ عميق.

وقد جرى الحرص على أن تُجسّد هذه الشهادات مختلف مراحل التجربة الاعتقالية: من لحظة الاعتقال التعسفي، مرورًا بمراكز الاحتجاز السرّية، وصولًا إلى المحاكمات وما بعدها.

بعض تلك الشهادات ورد ذكرها في تقارير دولية لـ«هيومن رايتس ووتش» و«منظمة العفو الدولية»، بما يعكس غنى التجارب وتنوّعها بين المأساة والصمود.

ويتابع كريمي قائلاً: «رغم أنني عايشتُ سنواتٍ من القهر والاعتقال وسمعت قصصًا مؤلمة كثيرة، فإن تأثير تلك الشهادات كان عميقًا للغاية. حين تسمع الضحايا يروون ما عاشوه بأصواتٍ مرتجفة وكأن الجرح ما زال ينزف، تدرك حجم الفاجعة الإنسانية التي مرّوا بها، كانت لحظاتٍ من صمتٍ وذهولٍ ودموعٍ واعترافٍ مؤجل، كأن الذاكرة استيقظت لتشهد من جديد».

ويعبّر كريمي بأسفٍ واضح عن غياب أي تجاوبٍ رسمي مع هذه الشهادات، قائلًا إن بعض الهيئات الحقوقية تمارس انتقائيةً مؤلمة، وأحيانًا صمتًا يرقى إلى التواطؤ.

ومع ذلك، لا بد من الإشادة بالموقف النبيل للجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي احتضنت هذه المبادرة، وبالرابطة العالمية للحقوق والحريات التي شاركت من خلال الأستاذ محمد حقيقي، الذي قدّم مداخلة قانونية رصينة ذكّرت الجميع بأن مسؤولية الدولة في هذا الملف لا تسقط بالتقادم.

ويؤكد كريمي أن التنسيقية تتعامل مع الألم كواقعٍ يوميٍّ لا كاستثناءٍ عابر، قائلًا: «نحاول خلق فضاءاتٍ للبوح والتضامن والدعم المتبادل، لأننا نؤمن أن المواجهة بالكلمة والتوثيق هي أول خطوة نحو الشفاء الجماعي. فـ”ما لا يُقال يقتلنا في الصمت”، والسكوت عن الانتهاك امتدادٌ له لا نقيضه».

ويختم كريمي حديثه قائلًا: «هذه الندوة ليست سوى بداية لمسارٍ طويل نحو الحقيقة الكاملة والإنصاف الشامل. نريد مصالحةً لا تُكتَب في البلاغات، بل تُمارَس في العدالة، لأن العدالة الانتقالية لا تُقاس بعدد التقارير، بل بجرأة الاعتراف».

وهكذا، لم تكن الندوة مجرّد لقاءٍ عابرٍ للذاكرة، بل بيانًا إنسانيًا ضد النسيان، وشهادةً جماعية على أن الوجع لا يسقط بالتقادم، وأن الذاكرة، مهما طال صمتها، لا تموت.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version