اندلع فجر الخميس حريقٌ مهولٌ في سوق “جنان الجامع” بمدينة تارودانت، أحد أعرق الأسواق التقليدية في الجنوب المغربي، مخلّفًا دمارًا واسعًا طال أكثر من سبعمائة محلّ تجاري، وأعاد إلى الواجهة سؤالًا مؤلمًا: كيف تحترق ذاكرة مدينةٍ كاملة بينما يغيب من يُفترض أن يحرسها؟
كشفت مصادر إعلامية أن النيران اندلعت في الساعات الأولى من الصباح، وامتدت بسرعةٍ كبيرة بسبب تقارب البنايات وضيق الأزقة، ما صعّب مهمة فرق الإطفاء التي واجهت ألسنة اللهب وسط ظروفٍ ميدانية قاسية.
وقد هرع إلى المكان عامل الإقليم مرفوقًا بالسلطات المحلية والأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة، في استنفارٍ شاملٍ لمحاصرة النيران ومنع امتدادها إلى الأحياء المجاورة، بينما استخدمت فرق الإنقاذ طائراتٍ مسيّرة لتقييم حجم الأضرار من الجو.
لكن المفارقة التي لم تغب عن أنظار الرأي العام، أن رئيس المجلس الجماعي لتارودانت وهو في الوقت نفسه وزير العدل عبد اللطيف وهبي لم يُشاهد في موقع الحريق، رغم رمزية السوق ومكانته في وجدان المدينة.
غيابٌ بدا في ظاهره إداريًا، لكنه في جوهره يكشف خللًا بنيويًا في ممارسة السلطة، حين تتوزع الألقاب وتتوحّد الغيابات.
فكيف يمكن الجمع بين إدارة قطاعٍ سياديٍّ بحجم العدالة، وتدبير مدينةٍ تنبض بحياة الناس اليومية وتستغيث في لحظة احتراق؟
لقد كشف “جنان الجامع” في تلك الليلة عن وجهٍ آخر للاختلال المؤسساتي: وزيرٌ يحمل لقب رئيس، ورئيسٌ يغيب حين تحترق الجماعة.
فحين تُمنح المناصب لشخصٍ واحدٍ في دولتين مختلفتين دولة العاصمة ودولة المواطنين يضيع الإحساس بالمسؤولية بين البروتوكول والميدان، وتُختزل العدالة في حضورٍ تلفزيوني يغيب حين تتصاعد الدخان من الأسواق القديمة.
في المقابل، أعلنت السلطات فتح تحقيقٍ لتحديد أسباب اندلاع الحريق وحجم الخسائر المادية، فيما عبّر سكان المدينة عن تضامنهم الواسع مع التجار الذين فقدوا مصدر رزقهم في ليلةٍ واحدة.
غير أن الدرس الأعمق لا يوجد في الرماد وحده، بل في صورة العدالة وهي تُختبر خارج القاعات الرسمية، في أزقةٍ ضيقةٍ تتسع للحقيقة أكثر مما تتسع للخطابات.
ففي تارودانت، كما في مدنٍ أخرى، لا تحترق الأسواق وحدها…
بل تحترق معها رمزية الدولة حين تتوزع بين دولتين: دولة العاصمة ودولة المواطنين.
