Between Palace Power and Street Outcry: When the King Put a Government on Life Support

في المغرب، لا تحتاج إلى استطلاع رأي لتعرف من يحكم. يكفي أن تصغي للشارع وهو يلعن الغلاء، وللقصر وهو يُعيد رسم أولويات الدولة في ليلةٍ واحدة.
هكذا ببساطة، تهاوى الخطاب الحكومي أمام جملةٍ ملكية واحدة: “استمعتُ إلى الشباب.”
جملة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بإخراج الحكومة من غرفة الانتظار إلى غرفة الإنعاش.

أصاب الصحفي توفيق بوعشرين عندما التقط نبض الشارع الجديد، جيل زِد لم يخرج بتمويلٍ ولا بإيديولوجيا، بل خرج عاريَ الصدر، حافيَ الحلم، ليقول ما لم تقله الأحزاب في نصف قرن: “اللهم إن هذا منكر.”
وفي لحظة نادرة في التاريخ السياسي المغربي، استجاب القصر. ليس خوفًا، بل وعيًا بأنّ “الشرعية الاجتماعية” أهم من أيّ أغلبية رقمية.
تحليل بوعشرين دقيق في هذا: الملك تصرّف كحَكَمٍ بين حكومة فقدت ثقة الشارع وشبابٍ فقد الثقة في الدولة.
لم يُسقط الحكومة حفاظًا على التوازنات، لكنه أسقط عنها أوهام السيطرة، وأعاد توجيه بوصلتها نحو ملفاتٍ لم تكن في أجندتها أصلًا: الصحة، التعليم، التغطية الاجتماعية، والحق في الطعن الدستوري.

أصاب بوعشرين في تشخيص لحظة “ما قبل الانهيار”: لحظةٍ كاد فيها الغضبُ الشعبي يتحوّل إلى تيارٍ اجتماعي يصعب ضبطه، ولحظةٍ أدرك فيها القصر أن التهدئة بالأمن لم تعُد مجدية.
فجاءت الاستجابة الملكية بمثابة “زرّ إعادة التشغيل” لمؤسساتٍ فقدت اللغة المشتركة مع الناس.
تحليله لزيادة ميزانيات الصحة والتعليم كان صائبًا بالأرقام والرمز، فالرفع من ميزانية وزارة الصحة إلى 42 مليار درهم ليس مجرّد عملية محاسبية، بل إعلانُ توبةٍ متأخّرة عن سياسة “الإصلاح بالصور” و“الإنجاز بالهاشتاغ”.
وكذلك ميزانية التعليم التي بلغت 97 مليار درهم تعني أن جيلًا من أبناء “جيل زِد” سيجلس على مقاعد أوسع قليلًا، ولو على حساب مديونية أثقل.
وأصاب أيضًا حين أشار إلى تضاعف ميزانية الأمن الوطني إلى أكثر من 13 ألف منصب جديد: الدولة تمدّ يدها بالميزانية الاجتماعية، لكنها لا تنسى أن تُبقي الأخرى على الزناد.

لكن بوعشرين لم يَسلم من فخّ المبالغة، حين وصف الحكومة بأنها “مجرد تصريف أعمال”، نسي أن القصر لا يُدير الملفات التنفيذية اليومية، وأن استمرار الحكومة ولو ضعيفة ضرورةُ نظامٍ لا يمكن أن يُدار من مرسومٍ إلى آخر.
كما أنّ تحميل جيل زِد وحده مسؤولية التحول الاجتماعي يُغفل مسارًا ملكيًا بدأ منذ سنوات تحت شعار “الدولة الاجتماعية”، قبل أن يضخّ الشارع فيه الأوكسجين.
ثمّ إن نعي بوعشرين للأحزاب كأنها “جثث سياسية” كان أقرب إلى بيان حِدادٍ منه إلى تحليل، فالموت الحزبيّ ليس حدثًا، بل سيرورة، والمطلوب اليوم ليس دفنها، بل تفكيك شبكات الريع داخلها وإعادة تدوير السياسة عبر شبابٍ مستقلّين قادرين على دخول الحلبة لا بوصفهم زينة انتخابية، بل بديلاً أخلاقيًا.

الصحفي بوعشرين كان شجاعًا حين عرّى لغة الأرقام في مشروع قانون المالية.
قالها بوضوح: الدولة تبيع المستقبل لتشتري الوقت.
وهو توصيف دقيق لسياسة “التمويلات المبتكرة” التي تقوم على بيع الممتلكات العمومية ثم إعادة كرائها.
لكن الخطأ ليس في الآلية بحد ذاتها، بل في غياب الشفافية. فعندما تبيع الدولة مدرسةً أو مستشفى ثم تدفع الإيجار لتشغيله، تتحوّل الملكية العامة إلى رهينةٍ مالية في يد صندوقٍ استثماري.
هنا يُصبح “الابتكار التمويلي” استعارةً جميلة لشيءٍ أقرب إلى رهن المستقبل.

ما قاله بوعشرين إنّ “الملك وضع السيروم لحكومة أخنوش” ليس مجرد عبارة.
هي خلاصة مرحلةٍ كاملة من سوء التواصل، وغياب الخيال السياسي، وتغوّل منطق “رجال الأعمال” داخل القرار العمومي.
لكن، لا أحد يُنقذ مريضًا بالسيروم إذا لم يُوقف النزيف.
وها هو النزيف ما زال قائمًا: في الأسعار، في البطالة، في الثقة، وفي المديونية التي تقترب من 76 % من الناتج الداخلي.

حين ختم بوعشرين بصوت “مول النعناع” في منانوت، لم يكن يبحث عن إثارةٍ بل عن اختصار.
رجلٌ بسيط رفع النعناع بيدٍ والشيبة باليد الأخرى، وصرخ:

“كنت مع أخنوش، واليوم أقول لكم هو الكذاب الكبير.”

ذلك المقطع أكثر بلاغةً من ألف تقرير اقتصادي.
فـ “مول النعناع” ليس خصمًا سياسيًا، بل مواطنٌ انكسر تحت وعود الثراء الوطني.
هو الوجه الشعبي للخيبة: منح صوته للأمل، فوجد نفسه بلا دعم، بلا رميد، وبلا ماء ولا ضوء.
إنه الملخّص الإنساني لسياساتٍ لا ترى المواطن إلا رقمًا في جدول.
في اللحظة التي صرخ فيها “مول النعناع” أمام الكاميرا، انتهى فيلم الدعاية السياسية.
كل ما بُني من صورٍ وتلميعٍ سقط في مواجهة جملةٍ واحدةٍ تخرج من قلب الجوع:

“هذا السيد كذّاب… ظلم المغاربة.”

ذلك ليس مجرد تصريحٍ عابر، بل شهادةٌ تاريخية تُعيد تعريف “التمثيلية السياسية” من الصالونات إلى الأسواق.

سؤال بوعشرين يبقى مفتوحًا: هل ما جرى بداية تصحيحٍ حقيقي أم مجرّد صفقةٍ اجتماعية مؤقتة؟
الجواب مرهون بما سيحدث بعد أن يبرد الشارع: هل تتحوّل الميزانيات إلى مستشفياتٍ واقعية لا صورٍ رقمية؟
هل يجد “مول النعناع” علاجًا ودعمًا وماءً في مدينته بدل تصريحٍ على مواقع التواصل؟
هل يُفتح البرلمان حقًا لجيل زِد أم يُستَعمل كصمّام أمان؟
الأسئلة كثيرة، والإجابات ليست في البلاغات بل في الميزانيات والنتائج.

ربما أخطأ بوعشرين في بعض التفاصيل، لكنه أصاب في الجوهر: الوعي عاد إلى الشارع، والشرعية لم تعُد تُشترى بالدعاية.
المغرب اليوم أمام مفترقٍ بين دولتين: واحدة تُوزّع الأمل ببلاغٍ ملكي، وأخرى تُصادِر الكرامة بقرارٍ إداري.
وما بينهما، يقف “مول النعناع” شاهدًا على الحقيقة: أن الفقر لا يُسكت بالوطنية، وأنّ الكرامة حين تُسلب لا يُعيدها إلا الوعي.
الوعي الذي قاله بوعشرين في جملته الأخيرة:

المعرفةُ سلطة، والوعي سلاح.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version