بقلم: نعيم بوسلهام

في مشهد يهزّ الثقة في المؤسسات الدينية الرسمية، ويضرب في العمق ما تبشّر به وزارة الأوقاف من “تسديد وتبليغ”، أصدرت المحكمة الابتدائية بخنيفرة حكما قضائيا بإدانة رئيس المجلس العلمي المحلي في قضية تزوير نتائج اختبارات الإمامة والخطابة والأذان.
حكم بثلاثة أشهر حبسا موقوف التنفيذ وغرامة مالية، لكنه في الجوهر أكبر من مجرد عقوبة تأديبية، لأنه يعرّي واقعا صادما داخل مؤسسة يفترض أن تكون منارة للصدق والنزاهة، لا مرتعا للمحاباة والكولسة.

القضية التي فجّرها العضو إدريس الإدريسي لم تكن مجرّد تصفية حسابات داخلية كما حاول البعض تصويرها، بل تحوّلت اليوم إلى إدانة قضائية موثقة، تُثبت أن التزوير لم يكن وهما ولا سوء فهم، بل ممارسة ممنهجة تمّ تمريرها في محاضر رسمية وتغطيتها بتواطؤ إداري فاضح.

الأخطر أن المحكمة أكدت وجود تأخير مقصود في إحالة تلك المحاضر على المجلس العلمي الأعلى، بعد ضغوطات وتدخلات هدفت إلى طمس الحقيقة.

هنا لا يعود السؤال متوجها إلى خنيفرة وحدها، بل إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نفسها:
أين كانت المراقبة؟
وأين اختفت تلك اللجان التي تملأ التقارير والشعارات حول “ترسيخ قيم النزاهة في التسيير الديني”؟

كيف يمكن لوزارة أحمد التوفيق أن تطالب الأئمة والخطباء بالورع والالتزام، وهي تعجز عن تطهير مؤسساتها من التزوير؟
كيف يمكنها أن تتحدث عن “تجديد الخطاب الديني” فيما الخطاب الإداري داخلها لا يزال أسير الولاءات والمحسوبية والولاءات الشخصية؟

ما حدث في خنيفرة ليس حادثا عرضيا، بل مرآة تعكس خللا بنيويا داخل المنظومة الدينية الرسمية التي تدّعي الوصاية على ضمائر الناس. فحين يتحول امتحان الإمامة – وهو أعلى تجسيد للثقة في من يصعد المنبر – إلى ساحة للتلاعب في النتائج، نكون أمام سقوط مدوٍّ للقيم قبل المؤسسات.

إن المسؤولية هنا لا تتوقف عند رئيس المجلس العلمي المحلي، بل تمتد إلى الوزير أحمد التوفيق نفسه، الذي لم يعد معنيا بإصدار بيانات مطمئنة، بل بات مطالبا بموقف سياسي وأخلاقي واضح:
إما فتح تحقيق شفاف وشامل يُسقط رؤوس الفساد داخل المجالس العلمية، أو تقديم استقالته احتراما لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي دعا إليه الملك في أكثر من مناسبة.

التستر على هذه الفضيحة يعني شرعنة الفساد باسم الدين، وتحويل المساجد من منابر للحق إلى مساحات لتزكية الباطل، وهذا ما لا يمكن للمغاربة أن يقبلوه. فالثقة في المؤسسة الدينية لا تُبنى بالفتاوى ولا بالشعارات، بل بالنزاهة والمساءلة.

لقد حان الوقت لأن تُراجع الوزارة وصايتها المطلقة على المجالس العلمية، وأن تُفتح ملفاتها أمام الرأي العام، لأن القداسة لا تعني الحصانة، والدين لا يمكن أن يُختطف باسم الوظيفة أو النفوذ.

إن الحكم القضائي الصادر بخنيفرة ليس ورقة قضائية تُطوى، بل ناقوس خطر يدقّ في جدار مؤسسة رسمية باتت تحتاج إلى تطهير عميق يعيد إليها المعنى والمصداقية.

فخطة “تسديد التبليغ” التي يرفعها الوزير التوفيق، لن تُسدد شيئا ما دام “التبليغ” نفسه ملوثا، وما دامت المجالس العلمية غارقة في وحل الزبونية والتواطؤ والصمت.

إن ما ينتظره المغاربة اليوم ليس خطبة جديدة تُحدّث عن الأخلاق، بل مواقف أخلاقية من داخل المؤسسات نفسها، تُثبت أن الدين في المغرب ما يزال قادرا على أن يكون ضمير الأمة، لا غطاءً للتستر على الفساد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version