من يحمي هذا الوطن ؟ حين تتحوّل الدولة إلى كعكة… واللوبيات إلى أدوات توزيع
Who Protects This Nation? When the State Becomes a Cake… and the Elites Turn into Distributors
الوطن لم يعد يُدار كفكرةٍ جماعية، بل كصفقةٍ طويلة الأجل تُجدَّد كل خميس.
صار الحلم المغربي محجوزًا في دفتر المواعيد الحكومية، يُفتح على أسماءٍ تتكرّر كالأناشيد، تُعيَّن، تُنصَّب، وتُكرَّم… بينما الكفاءات الحقيقية تُصفَّف خارج القاعة تنتظر إذن الدخول.
الدولة لم تعد تُدار بمنطق الخدمة العامة، بل بمنطق “من يخدم من”.
السلطة لم تعد تكليفًا، بل وكالة توزيعٍ بين رجال المصالح.
المسؤولية صارت تجارة، والشفافية غلافًا فاخرًا يُغلّف رائحة العفن الإداري.
في هذا الوطن، المناصب لا تُكتسب، بل تُورَّث.
الخميس صار يوم القسمة، حيث تُوزَّع المناصب كما تُوزَّع الغنائم بعد معركة بلا دماء.
وجوهٌ تُعاد تدويرها كالنفايات السياسية: تتغيّر المواقع ولا تتغيّر العقليات.
من رئيسٍ إلى مدير، ومن مديرٍ إلى وزير، ومن وزيرٍ إلى والي أو عامل، ومن عاملٍ أو وزيرٍ إلى سفير…
نفس الأسماء، نفس الوجوه، نفس الخطابات.
كأن المغرب لا يملك سوى خمسين شخصًا يديرون كل شيء منذ الاستقلال.
تدوير المناصب صار مثل لعبة الكراسي الموسيقية: تتغيّر الكراسي فقط، أما الجالسين فهم دائمون.
فأين هي الكفاءة في هذا التدوير؟ وأين هو التجديد في إدارةٍ صارت تُكرّر نفسها حتى في الأخطاء؟
يُقال إن الإصلاح مسار طويل، لكن أي إصلاحٍ هذا الذي يبدأ بتعيين الأصدقاء وينتهي بتكريم الأقارب؟
أي دولةٍ هذه التي يكتب فيها النافذ المرسوم بيده، ثم يوقّع عليه باسمه، ثم يطبّقه لصالح شركته؟
لقد صار تضارب المصالح عقيدة سياسية.
الوزير صار مقاولًا ناجحًا، والمستثمر صار مشرّعًا، ورئيس الحكومة يجلس بين ملفّيْن: ملف الوطن، وملف المجموعة.
وفي كل قرارٍ اقتصادي، تختلط الوطنية بالمصلحة، ويتحوّل المرفق العام إلى “فرع تابع” للقطاع الخاص المقنّع بالسلطة.
القوانين لم تعد تُكتب لتحمي الشعب، بل لتبرّر الثروة.
تم تعديل النصوص لتناسب الوزارات التي تملك مصالح تجارية، وتفصيل المراسيم على مقاس من يوقّعها.
صار التبرير السياسي أخطر من الفساد نفسه، لأنه يجعل الفساد قانونيًا… وشرعيًا.
حين سُحب قانون “الإثراء غير المشروع” من البرلمان، لم يكن ذلك مجرّد قرار تقني، بل إعلان رسمي عن موت الضمير العام.
الدولة قالتها دون أن تقولها: “لن نحاسب أحدًا منّا”.
من يملك النفوذ يملك حق التفسير، ومن يملك التفسير يملك البراءة.
وهكذا، لم يعد الغنيّ بحاجة إلى تبرير ثروته، بل إلى خطابٍ جاهزٍ عن “النجاح الاستثماري”.
أما الجمعيات، فقد حُوصرت بذكاءٍ مالي.
التمويل صار وسيلة تطويع، والرقابة سلاح تكميم.
من يرفع رأسه يُمنع من الدعم، ومن ينحني يُمنح منحة.
صار النضال مشروطًا بوصل إيداع، والكرامة تُقاس برقم الحساب البنكي.
ومع ذلك، ما زال هناك من يكتب، من يصرخ، من يرفع دعوى فقط ليذكّر أن في هذا الوطن من لا يُشترى.
الإدارة بدورها تحوّلت إلى مسرحٍ ساخر.
مديرة تُدير معهدًا فنيًا وتعيّن نفسها أستاذةً داخله، في مفارقةٍ تختصر حال منظومةٍ أصبحت فيها الأدوار قابلة للتبديل بلا حرج: الممثلة تصير مديرة، والمديرة تصير أستاذة، والمشهد يُصفّق له كأنه عملٌ إبداعيّ لا تجاوز إداريّ.
إنها حالة تُلخّص المعنى الحقيقي لـ “تعدد المناصب” في هذا البلد، حيث لا فرق بين خشبة المسرح وكواليس الإدارة، لأن المخرج هو نفسه من يمنح الأدوار ويؤدي البطولة في الوقت ذاته.
من لطيفة أحرار إلى غيرها كثيرون، المشهد واحد: المناصب تُمنح كما تُوزَّع الأدوار في عملٍ تلفزيونيٍّ طويل، بينما الكفاءات الحقيقية ما زالت في طابور الانتظار.
أما الجمهور، فقد غادر الصالة منذ زمن بعدما حفظ الحوار عن ظهر قلب.
وحين يكون رجل الأعمال هو رئيس الحكومة، تصبح الدولة شركةً مساهمة.
قرارات مجلس الحكومة تمرّ عبر مصالح تتقاطع مع مجموعات تجارية كبرى.
الصفقات تُبرَّر باسم التنمية، والمنافع تُغطّى بشعارات “الاستثمار الوطني”.
من يراقب السوق هو نفسه من ينافس فيه، ومن يصدر المرسوم هو نفسه من يستفيد منه.
النتيجة: تضارب المصالح لم يعد عيبًا، بل صار أسلوب حكم.
إننا نعيش لحظة انهيارٍ هادئٍ لفكرة الدولة.
لا أحد يتحدث عن المصلحة العامة إلا ليُبرّر مصلحته الخاصة.
الشركات تتحدث باسم الحكومة، والحكومة تتحدث باسم الشركات، والمواطن صار مجرّد زبون في متجرٍ اسمه الوطن.
من يحمي هذا الوطن من الذين جعلوا الولاء عملة، والكفاءة ديكورًا إداريًا؟
من يحميه من الذين يرفعون شعار “الاستثمار في الإنسان” وهم يستثمرون في أنفسهم؟
من يحميه من الذين يوقّعون باسم الوطن ويقبضون باسم الشركة؟
الوطن لا يحتاج إلى شعاراتٍ جديدة، بل إلى شجاعةٍ قديمة.
إلى مسؤولٍ واحد يقول: “كفى”.
إلى وزيرٍ واحد يرفض توقيع صفقة مشبوهة.
إلى برلمانيٍّ واحد يقرأ القانون بضميرٍ لا بمصلحة.
هذا الوطن لا يريد أن يُنقَذ، بل أن يُنظَّف .
من الغنيمة التي صارت سياسة، ومن الولاء الذي صار مؤهّلًا إداريًا، ومن الصمت الذي صار دستورًا غير مكتوب.
فهل نبني وطنًا… أم نحرس كعكة؟
سؤال مؤلم لكنه صار ضروريًا.
لأن الذين يوزّعون الوطن اليوم، قد لا يتركون منه غدًا ما يُوزَّع.
