The Royal Speech Needs No Translator—Only an Analyst Who Understands Its Weight

في السياسة، ليست العبرة بمن يتكلم، بل بمن يفهم وزن ما يُقال.
وهنا تحديدًا تُطرح قضية تحليل الخطاب الملكي في المغرب، حيث تتقاطع الوطنية بالفكر، وتتحول البلاغة الرسمية إلى مادة للتأمل السياسي، لا إلى مجرّد نصّ للتصفيق.

من بين الأسماء التي شكّلت حضورًا بارزًا في هذا المجال، يبرز الدكتور عبد الرحيم منار السليمي، أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط، ورئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني.

صوته حاضر باستمرار في النقاش العمومي، تحليلاته تُتابَع من طرف الرأي العام والإعلام، وغالبًا ما يُقدَّم بوصفه الواجهة الأكاديمية الأكثر التصاقًا بخطّ الدولة في قراءتها للواقع الإقليمي.

غير أن التحليل الأخير الذي قدّمه السليمي حول الخطاب الملكي التاريخي، عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797/2025 بشأن الصحراء المغربية، يثير نقاشًا عميقًا حول طبيعة المقاربة التحليلية التي ينبغي أن ترافق خطاب الدولة، وحول الفرق بين من ينقل الخطاب، ومن يفكّك منطقه.

جاءت تصريحات السليمي خلال حلوله ضيفًا على برنامج “نبض العمق” الذي بثّته جريدة “العمق المغربي” مساء الثلاثاء 4 نونبر 2025.
وفي هذا اللقاء، وصف الخطاب الملكي بأنه “مخرج دبلوماسي للنظام الجزائري من ورطته بعد القرار الأممي”، معتبراً أن مبدأ “لا غالب ولا مغلوب” الذي ركّز عليه الخطاب يمثّل فرصة للقيادة الجزائرية
لدخول حوار مباشر مع المغرب دون الشعور بالهزيمة.

تحليل السليمي بدا في ظاهره متماسكًا، منسجمًا مع النبرة الملكية المتزنة، لكنه في عمقه يطرح سؤالًا منهجيًا:
هل المطلوب من الأكاديمي أن يشرح الخطاب الرسمي أم أن يقرأه في ضوء ما يتجاوز ظاهره؟
وهل يكون الولاء الوطني أصدق حين يُترجم إلى بلاغةٍ تكرّر الرسائل الرسمية، أم حين يُترجم إلى تفكيرٍ ناقدٍ يعزّز رسوخها؟

أولاً: بين “الارتباك الجزائري” وبلاغة الانتصار المغربي

اعتبر السليمي أن الجزائر تعيش “ارتباكًا كبيرًا” وأن الخطاب الملكي قدّم “مخرجًا دبلوماسيًا” لها.
لكنّ هذا التوصيف، وإن كان جذابًا إعلاميًا، لا يخلو من التبسيط.
فالدبلوماسية المغربية، بعد القرار الأممي، ليست في موقع من يمنح المخارج، بل في موقع من يفرض المسارات.

لقد نجح المغرب، خلال العقد الأخير، في بناء رؤية سيادية متماسكة
تحوّلت إلى مرجع أممي واضح يكرّس مبادرة الحكم الذاتي كحلّ وحيد واقعي.
ومن ثَمّ، فالمسألة لم تعد “ورطة جزائرية” بقدر ما هي تحوّل مغربي من الدفاع إلى القيادة.
وهنا تكمُن البلاغة الحقيقية للخطاب الملكي:
أنه لم يتحدث عن الانتصار بصوتٍ عالٍ، بل بلغةٍ هادئة تعرف قيمتها.

الخطاب لم يكن رسالة إنقاذ، بل تثبيتًا لهندسة النصر السياسي والدبلوماسي، نصرٍ يتحقق بالفعل لا بالاستعارة.

ثانياً: “لا غالب ولا مغلوب”… بين التسامح والسيادة

حين استعاد الملك محمد السادس هذا المبدأ التاريخي، لم يكن يستحضر مفردات الصلح القديمة ولا لغة التنازل، بل يعيد تعريف مفاهيم النصر والهزيمة في زمنٍ جديد.

ففي المنطقة المغاربية، لم تعد المعارك تُربح بالحدود أو بالمدافع،
بل بالعقل الدبلوماسي القادر على تحويل القوة الرمزية إلى نفوذ مؤسسي.
وهنا بالضبط تكمن دلالة المبدأ:
“لا غالب ولا مغلوب” ليست هدنة أخلاقية، بل صيغة سيادية للحفاظ على التوازن بين الواقعية والكرامة.

أما قراءة السليمي للمبدأ كمحاولة “لإنقاذ الجزائر”، فهي تقزيم لمقاصد الخطاب الملكي الذي لم يقدّم مبادرة عطف، بل مقترح دولة واثقة تدعو جارتها إلى الخروج من الماضي.

ثالثاً: الغائب في التحليل… البعد الدولي

من أبرز الثغرات في قراءة السليمي غياب الرؤية الدولية الشاملة لما حدث.
فالقرار الأممي لم يكن مجرّد انتصار دبلوماسي محدود، بل نقطة تحوّل في بنية النظام الإقليمي بشمال إفريقيا.

لقد تحرّك المغرب على جبهات متعددة:
من واشنطن حيث تأكدت استمرارية الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب، إلى باريس ومدريد حيث تم تثبيت المواقف المؤيدة، مرورًا بالعواصم الإفريقية التي أصبحت ترى في المغرب نموذجًا للسيادة المتزنة.

إنّ تجاهل هذه الشبكة من التحالفات في أي تحليل يُضعف القراءة، ويجعلها تبدو وكأنها مجرّد مناظرة مغربية جزائرية، في حين أن المغرب اليوم يتحدث بلغة العالم، لا بلغة الجوار فقط.

رابعاً: بثّ الخطاب في تندوف… بين الرمز والتسرّع

قال السليمي إن بثّ الخطاب الملكي لأول مرة على شاشة “البوليساريو”
يدلّ على انقسام داخلي في صفوف القيادة داخل المخيمات.
لكنّ هذا الربط المباشر يفتقر إلى دليلٍ موثّق.
فقد يكون البثّ مجرّد خطوة تكتيكية أو محاولة لتخفيف الضغط، وقد يكون، في المقابل، مؤشراً على إدراكٍ ضمني بأن الخطاب المغربي أصبح جزءاً من المعادلة الإعلامية في تندوف نفسها.

القارئ الحصيف لا يقفز إلالاستنتاج، بل يقرأ المؤشرات وفق سياقها وتراكمها الزمني.
فالمخيمات تعرف بالفعل تحولات صامتة، لكنها تحتاج إلى بحثٍ ميداني لا إلى انطباعات إعلامية.

خامساً: بين التحليل الوطني والتحليل الأكاديمي

التحليل الوطني الحقيقي لا يقاس بمدى قربه من الخطاب الرسمي، بل بقدر ما يضيف إليه من عمق وشرعية فكرية.
فالأكاديمي ليس صدى للسياسي، بل مرآته النقدية.
وحين يتحوّل التحليل إلى مجرّد “تفسيرٍ دعائي” للخطاب الملكي، يفقد قوته العلمية ويضيع في زحمة البلاغات المواكِبة.

إنّ الخطاب الملكي في جوهره درس في فنّ القوة الهادئة، يحتاج إلى محللين يقرؤونه بمنهج لا بانفعال، ويترجمون مضامينه إلى فكرٍ سياسي عالميٍّ يخاطب العقول لا الغرائز.

المعركة اليوم ليست على مستوى الكلمات، بل على مستوى من يستطيع أن يقدّم للعالم الفهم المغربي للسيادة كبديل عن خطابات الانقسام والهيمنة في المنطقة.

سادساً: نحو مدرسة مغربية في التحليل

إنّ الحاجة أصبحت ملحّة لتأسيس مدرسة تحليل مغربية تجمع بين روح الدولة واستقلال الفكر.
مدرسةٌ تمتلك منهجية دقيقة، وتؤمن أن الوطنية ليست تكراراً، بل اجتهادٌ داخل حدود الإجماع.

فالقضية الوطنية لم تعد اختباراً للولاء السياسي فقط، بل امتحاناً لقدرة النخبة على إنتاج فكرٍ سياديٍّ مغربيٍّ يُترجم المفاهيم الكبرى مثل “الريادة” و“السيادة” و“الوحدة الترابية” إلى أدوات فهمٍ عالمية.

وعندما تنضج هذه المدرسة، لن نحتاج إلى من “يشرح” الخطاب الملكي، بل إلى من يُطوّر مفاهيمه ويمتدّ بها نحو المستقبل.

حين يتكلم الملك بلغة المستقبل

يبقى عبد الرحيم منار السليمي واحدًا من أبرز الوجوه الوطنية في التحليل السياسي، وصوته جزءًا من النقاش العام الذي يواكب التحوّلات.
لكنّ اللحظة التي يعيشها المغرب اليوم تتطلب ارتقاءً في مستوى التحليل، يتناسب مع رُقيّ الخطاب الملكي وعمقه.

فالملك لم يقدّم مجرّد خطاب سياسي، بل رسم تصوّراً تاريخياً لمغربٍ جديدٍ ينتقل من الدفاع عن السيادة إلى ممارستها الكاملة.
إنه خطاب لا يحتاج مترجماً يشرح نواياه، بل محلّلاً يفهم وزنه،ويقرأه كما هو:
نصٌّ سياديٌّ صاغته الحكمة،وحملته الدبلوماسية، وأعلنه التاريخ.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version