الاحتجاج الاجتماعي في هامش الجغرافيا وحدود الدولة:
قراءة سوسيولوجية في احتجاجات آيت بوكماز
بقلم: عبد المولى المروري
تشكل الاحتجاجات الشعبية أحد أبرز أشكال التعبير عن الغضب الجماعي في مواجهة التهميش وغياب العدالة المجالية، وشكلًا من أشكال التعبير عن الأعطاب البنيوية التي تطبع علاقة الدولة بالمجتمع، خصوصًا في الهوامش الجغرافية.. ومنطقة آيت بوكماز، الواقعة في عمق جبال الأطلس الكبير، تقدم اليوم نموذجًا دالًا على ما يمكن تسميته بـ”ثورة الصامتين” في المغرب العميق.
وتأتي احتجاجات ساكنة آيت بوكماز بإقليم أزيلال في يوليوز 2025، كحالة رمزية تستدعي التوقف عندها، نظرًا لما تطرحه من أسئلة حول مفهوم التنمية، العدالة المجالية، والاندماج السياسي للأطراف.
حيث انطلقت المسيرة من دواوير كانت معزولة منذ استقلال المغرب، وما تزال كذلك إلى اليوم، لتكشف عن أزمة تاريخية وجغرافية متعددة الأبعاد: اجتماعية، تنموية، وسياسية، وتضع أمام الدولة والمجتمع سؤالًا محوريًا: إلى متى سيظل “الجبل” خارج حسابات التنمية والكرامة؟
أولًا:
بين التهميش المجالي وغياب الاعدالة الإنمائية:
تقع منطقة آيت بوكماز في أعالي جبال الأطلس الكبير، وتُعرف بطبيعتها الوعرة، وعزلتها المناخية، وقلة البنية التحتية. ورغم جمالها السياحي، تعيش حرمانًا تنمويًا كبيرًا منذ حصول المغرب على الاستقلال مقارنة بباقي الأقاليم المغربية القريبة من العاصمة.
فمن منظور علم الاجتماع السياسي، تشكل مناطق مثل آيت بوكماز “الهوامش البنيوية” في النظام الوطني للتنمية، فهي مناطق: معزولة جغرافيًا ومناخيًا، مهمشة في الخطاب التنموي والمؤشرات الاقتصادية، وتُعامل غالبًا كـ”خزانات انتخابية” أو “مجالات رمزية” للخطاب السياحي البيئي، دون مشاريع تنموية حقيقية.
ويفسر الباحث المغربي سعيد بنسعيد العلوي هذا النوع من الإقصاء بـ”المواطنة المنقوصة”، حيث يُعامل المواطن الجبلي كفاعل غير كامل الحقوق، ويُستدعى فقط عند الحاجة (الانتخابات، التوازن السكاني…).
ثانيًا:
الاحتجاج كتحول في الوعي الجماعي:
ما يُميّز احتجاج آيت بوكماز كجل الاحتجاجات التي عرفها المغرب من قبل، مثل انتفاضات آيت بعمران والريف وفكيك.. هو أن هذا الاحتجاج:
سلمي ومنظّم من الداخل، بعيد عن أي تأطير حزبي أو نقابي.
يقوده السكان أنفسهم، رجالًا ونساءً، في مسيرة جماعية على الأقدام.
يستند إلى قائمة مطالب واضحة وعادلة، تشمل الصحة، التعليم، البنية التحتية، والاتصال.
ويعبّر عن تحول نوعي في العلاقة مع الدولة: من التوسّل إلى الضغط، من الانتظار إلى المبادرة.
وأبرز ما تكشفه هذه الحالة هو أن الهامش لم يعد صامتًا.
فـ”الجبل” الذي طالما عُدّ منطقة خضوع وولاء، صار اليوم يُطالب بالكرامة والخدمات، ويدرك أن الاحتجاج إذا كان منظمًا وسلميًا قد يُحرج الدولة، وهذا تطور نوعي في وعي سكان البوادي والقرى والجبال .
وفي هذا الإطار يقول عالم الاجتماع الفرنسي جون روش: “الهوامش حين تنتفض، تفعل ذلك لا فقط لطلب الخبز، بل للاعتراف بوجودها.”
أما عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو فيفسر هذا التحول في السلوك الجمعي بظهور ما يسميه “الرأسمال الاحتجاجي”، أي إن وعي الناس له القدرة على إزعاج وإحراج السلطة خارج الوسائط التقليدية. أي بعيد عن توظيف الأحزاب واستغلال النقابات وغيرهم…
ثالثًا:
حدود الدولة المركزية في إدارة الأطراف:
تعكس هذه الاحتجاجات أزمة نمط الحكم الجهوي الذي بقي حبيس الشعارات، رغم خطاب الجهوية الموسعة. فالمواطن في آيت بوكماز لا يطالب بالرفاه، بل بأبسط شروط العيش الكريم:
طبيب دائم في المركز الصحي.
طريق سالكة في الشتاء.
مدرسة جماعية تحفظ كرامة الأطفال.
ماء شروب، وإنترنت، وتصاميم تهيئة عقلانية.
وهذا يعيد إلى الواجهة سؤال “الهشاشة المؤسسية” للدولة في الأطراف، كما طرحه الراحل فؤاد بوعلي حين قال: “المركز لا يعرف شيئًا عن الأطراف إلا حين تصرخ.” ولنا في زلزال الحوز أبرز مثال..
فرغم كل الخطابات حول “الجهوية الموسعة”، تكشف هذه الحالة هشاشة أداء الدولة في الأطراف، وعجزها، بل امتناعها عن صياغة سياسات إنمائية مندمجة. وهذا ما يفسر تكرار المطالب نفسها في مناطق الأطلس، والجنوب، والجنوب الشرقي، والريف، حيث تُواجَه أغلب المطالب بـ”الوعود”، دون التزام تعاقدي. فالإدارة الجهوية، ومن خلفها الإدارة المركزية – للأسف الشديد – تمارس “البيروقراطية التبريرية”، لا “المسؤولية التنموية”، ليبقى مشروع الجهوية الموسعة مجرد شعار قصد الاستهلاك الداخلي والترويج الخارجي دون إرادة سياسية حقيقية من أجل تنزيله على أرض الواقع..
رابعًا:
من الاحتجاج المحلي إلى الرمز الوطني:
مثلما تحولت آيت بعمران، جرادة، الريف، زاكورة وغيرها إلى رموز للاحتجاج الاجتماعي، يُمكن لآيت بوكماز أن تمثل حلقة جديدة في سلسلة “انتفاضات المهمّشين”، خاصة إذا تم تجاهل مطالبها أو قمعها.
ويُذكّرنا هذا بما يسميه جيمس سكوت في كتابه “الهيمنة والمقاومة: نصوص خفية”، حيث يشير إلى أن الصمت الطويل غالبًا ما يسبق انفجارًا رمزيًا، قد لا يكون عنيفًا لكنه يهزّ سرديات الدولة.
إن تعدد الاحتجاجات المجالية يعطيها بعدا وطنيا، مفاده أن تهميش القرى والجبال والمدن الصغيرة والبعيدة هو سياسية مقصودة على المستوى الوطني، والاحتجاجات هو رفض وطني لهذه السياسة.
احتجاجات قادمة من اتجاهات المغرب العميق كلها، محملة بحمولات ثقيلة من الغضب والرفض.. لتصب في واد واحد وخطير، اسمه «الثورة»، وإذا لم تسارع الدولة المركزية إلى إنصاف هذه الهوامش.. فإن هذا الواد سيجتاح المغرب كله ليستأصل الاستبداد والفساد من جذورهما أينما حلا وكانا..
إن احتجاجات آيت بوكماز ليست مجرد مسيرة محلية، بل تعبير صريح عن خلل عميق في منظومة التنمية المجالية، وعن تصدّع العلاقة بين المواطن والدولة في المغرب غير النافع.
إن مسيرة آيت بوكماز دعوة للاستماع إلى “هامش الجغرافيا” الذي بات في قلب السياسة، لا بالعنف، بل بسير حافي القدمين، وبكلمة واضحة: “نحن هنا… ولن نصمت بعد الآن.”
فهل استفادت الدولة من دروس احتجاجات آيت بعمران والريف وفكيك وجرادة وغيرها؟ وكيف ستعالج حراك آيت بوكماز؟