لم تعد حفلات التخرج في عدد من المؤسسات التعليمية بالمغرب تقتصر على تقديم شواهد وتكريم تفوق علمي أو تربوي،
بل باتت تتحول شيئاً فشيئاً إلى عروض استعراضية، في بعض الأحيان لا تختلف كثيراً عن مشاهد تنتمي لعوالم الحفلات التجارية أو عروض “الشيخات”،
في مشهد يُربك الأسرة، ويصدم المدرّس، ويُربك كل من لا يزال يرى في المدرسة فضاءً للعلم، والانضباط، والمثال الأخلاقي.
المظاهر الأخيرة المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من رقص هستيري، ولباس لا تربوي، وسلوكيات لا تمت بصلة لا للعلم ولا للتكوين،
طرحت سؤالاً مركزياً:
هل نحتفل فعلاً بالتخرج، أم أننا ندفن آخر ما تبقى من رمزية المدرسة؟
المدرسة… من التنشئة إلى التسويق
في منظومة يُفترض أن تُعدّ الناشئة لتكون مواطنة فاعلة،
كان يُنتظر من وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي أن تُضبط هذه اللحظة – لحظة التخرج – ضمن إطار تربوي وقيمي واضح،
يعزز ما بُني طوال سنوات من التحصيل، بدل أن يتحول إلى انفلات رمزي يُكرّس الرداءة والسوقية.
لكن الذي حصل – وما زال يحصل – هو صمت رسمي،
وتواطؤ غير معلن من بعض الإدارات، التي سمحت بتحويل مرافقها إلى فضاءات “احتفال غير منضبط”،
تُبرر ذلك برغبتها في إرضاء التلاميذ أو في “مجاراة العصر”،
وكأن التعليم يجب أن يخضع لمنطق “اللايكات” بدل المبادئ.
أين الوزارة؟ أين الإدارة؟ وأين الأسرة؟
لا أحد يعفي الأسرة من دورها،
لكن المؤسسة التعليمية – باعتبارها فضاءً عمومياً – لها دور تربوي لا يقل عن التعليم نفسه.
فهل فعّلت الإدارات التربوية أدوارها في التأطير؟
أين هي الأندية المدرسية؟ أين الحياة المدرسية الحقيقية التي تنتج عروضاً فنية وأدبية بقيمة؟
أم أننا نترك الفراغ ليملأه الهزل، ثم نلوم التلاميذ؟
أما وزارة التربية الوطنية، فموقفها “الصامت” لم يعد مفهوماً،
خصوصاً في ظل سياق اجتماعي متوتر،
يعرف فيه المواطن أن كل صورة تمر على الشبكة يمكن أن تُحوّل إلى قضية رأي عام،
فكيف تقبل الوزارة أن تُمثل المدرسة المغربية بمشاهد تُسيء لرسالتها أكثر مما تُجمّلها؟
من المسؤول عن تشويه التخرج؟
المفارقة المؤلمة أن اللحظة التي يُفترض أن تكون تتويجاً لمسار علمي،
أصبحت تُستعمل لتهريب النقاش من جوهر التعليم إلى سطحيات لا تعكس الواقع الحقيقي للمدرسة العمومية.
نحن لا نملك مشكلة مع الفرح، ولا مع التعبير،
بل نملك مشكلة مع تحويل المدرسة إلى فضاء للابتذال، بعلم المسؤولين وصمتهم، بل وأحياناً بموافقتهم.
بل الأخطر من ذلك، أن هذا التحوّل يساهم في نسف صورة التعليم كقيمة، وكهيبة، وكأمل مجتمعي.
فأي رسالة نمررها حين يرى طفل في الابتدائي أن “تخرج الإعدادي” أصبح عرضاً راقصاً؟
وأي معنى للتفوق إذا كان “الأكثر احتفالاً” هو من يحصد التصفيق، لا من تعب واجتهد؟
بين قدسية النشيد وعبث الصورة… هل من مراجعة شجاعة؟
نحن لا نُشيطن الفرح، ولا نحاصر الاحتفالات،
لكن نرفض أن تتحوّل المدرسة إلى مسرح للفوضى الرمزية،
وأن يُختزل التخرج في رقصة أو لقطة فايسبوكية تُنسينا سنوات من الجهد، ومسؤوليات المرحلة القادمة.
والخطير في الأمر، أن العديد من الفيديوهات المُروَّجة تُظهر تلاميذ يفتتحون هذه العروض بالنشيد الوطني،
في مشهد يُوهم المتابع بأننا أمام لحظة وطنية بامتياز،
قبل أن تنقلب المشاهد بعد دقائق إلى ما يُشبه عروض الترفيه العشوائي، المليئة بالارتجال والتسيب، إن لم نقل الابتذال.
فهل النشيد الوطني أصبح مجرد “موسيقى تمهيدية” تُدرج على رأس أي احتفال بلا ضوابط؟
هل يُعقل أن تُستعمل الرموز الكبرى – من قبيل العلم والنشيد – لتلميع مشهد لا يعكس لا الانضباط ولا القيمة التربوية؟
النشيد الوطني ليس صوتاً يُذاع فقط، بل هو عهد…
والعلم الوطني ليس مجرد قطعة قماش، بل هو قيمة تُرفع حين يُستحق الرفع.
وحين تُستعمل هذه الرموز كديكور في مشهد مُسيء للتعليم،
فذاك مسٌّ غير مباشر بما تمثّله الدولة من احترام وهيبة.
إننا اليوم أمام أزمة لا تخص التلاميذ وحدهم، بل المنظومة برمتها:
من المسؤول عن تمرير هذه الممارسات؟
من غطّى بالصمت أو بالتساهل؟
ومن تواطأ، دون أن يُدرك أنه يُساهم في “تبليد الحس الرمزي” لدى الأجيال الصاعدة؟
فحين تُختزل الوطنية في نشيد يُشغّل فوق مشهد فوضوي،
وحين يُرفع العلم فوق مسرح لا يشرّف لا المدرسة ولا الوطن،
فنحن لا نحتفل بالتخرج…
بل نوقّع على استقالة رمزية من “مهنة التربية”.
دعوة إلى إصلاح السلوك لا حظره
المطلوب اليوم ليس فقط التحسّر على “حفلات الانحراف التربوي”،
بل تجديد النقاش حول معنى المدرسة، رمزية التخرج، وحدود الفرح المسؤول.
المدرسة ليست مصنع شهادات فقط، بل صانع مواطن.
والمواطن الحقيقي، لا يبدأ مسيرته بـتشويه النشيد الوطني،
ولا يرفع العلم لتغطية اللامسؤولية.
ولذلك… فإن الوطن، كما المدرسة،
لا يُبنى بالصوت العالي والرقص،
بل بالتربية، والانضباط، والمعنى.