لا شيء يُلخّص المفارقة المغربية اليوم أكثر من هذا المشهد: دولة تُراكم المديونية وتُحذّر من ضغط النفقات العمومية، لكنها في الآن نفسه تُعبّئ ملايير الدراهم لتأهيل ملاعب لاستخدام مؤقت، ضمن بطولة عالمية ليست حصرية، ولا حتى محايدة في أرباحها. مونديال 2030 يُقدّم لنا كنقطة تحوّل اقتصادية واستراتيجية، بينما كل المؤشرات الاقتصادية والواقع المقارن تُحيل إلى العكس.
المغرب يستعد لاحتضان عدد محدود من مباريات المونديال، بشراكة ثلاثية مع إسبانيا والبرتغال، ومع ذلك، تُقدّر الكلفة الإجمالية المتوقعة للاستعداد بما لا يقل عن 10 ملايير درهم. هذه الأرقام لا تصدر عن تقارير مستقلة، بل تأتي ضمن تصريحات حكومية ومداولات غير مفصّلة، تُروّج لما يُسمى “الربح غير المباشر”: إشعاع دولي، انتعاش سياحي، وتحسين للتموقع الجيو-اقتصادي.
لكن من صاغ هذا المنطق؟ ومن وضع فرضياته؟ ومن يراقب صحّته؟
لا توجد وثيقة واحدة صادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية، أو بنك المغرب، أو أي مؤسسة رقابية رسمية، تشرح الأسس الاقتصادية لهذا المشروع، أو توقّعات العائدات، أو السيناريوهات المقارنة. فقط تصريحات متفائلة تُعيد تدوير جمل قديمة حول “المغرب الجديد” و“الاستثمار في الصورة”. لكن الواقع أن الاستثمار الحقيقي اليوم يجب أن يكون في القطاعات الاجتماعية، لا في مناسبات مؤقتة.
المقارنة التي تُعرّي المفارقة: كندا والمكسيك وأمريكا لا يخسرون شيئًا
في مونديال 2026، ستستقبل كندا 13 مباراة، والمكسيك عددًا مماثلًا، ضمن شراكة مع الولايات المتحدة، دون أن تُنفق أيًا من هذا الحجم المالي. لم تُطلق مشاريع استعراضية، لم تُعلن حملات دعائية، بل كل شيء خُطط له بواقعية وشفافية، ضمن البنية المتاحة، ومن دون بيع الأمل للمواطنين.
هذا النموذج يُظهر الفارق بين دولة تُدبّر وفق منطق المؤسسات، وأخرى تُبرمج وفق رغبات اللحظة والرمز.
الفيفا تبيع الحدث… وتحتكر الأرباح
هيكلة تنظيم كأس العالم اليوم تُفرغ الدول المضيفة من كل أفق للربح المباشر. الفيفا تحتكر الحقوق والبث والتسويق، وتُعيد توزيع الأرباح حسب منطق داخلي غير شفاف. كل ما يتبقى للدول “الشريكة” هو الإنفاق، الضغط، والإشراف على الخدمات اللوجيستيكية.
في هذه الشراكة، المغرب يُموّل، يُجهّز، يُروّج، ثم ينتظر “الأثر الإشعاعي”، بينما لا أحد يضمن له لا عائدًا سياحيًا، ولا انتعاشًا اقتصاديًا، ولا حتى تذكرة دخول للأدوار الحاسمة.
لا أحد يُنكر الرمزية الوطنية في استضافة حدث كروي عالمي، لكن السياسات العمومية لا تُبنى على الرمزية. المدارس، المستشفيات، العالم القروي، الطفولة، البطالة، كلها ملفات لا تُعالج بالتصفيق في مدرجات مؤقتة، ولا بتقارير تلفزية تقول إن “المغرب تألّق تنظيميًا”.
الرهان على حدث محدود زمنًا ومكانيًا ليحمل نتائج تنموية بعيدة المدى هو مخاطرة سياسية، وليست استراتيجية اقتصادية.
الملك كان واضحًا… فأين فهمكم؟
جلالة الملك محمد السادس نصره الله، قالها بوضوح في خطاب العرش الأخير: “المغرب يسير بسرعتين، وهناك فئات وجهات لم تواكب دينامية التقدم التي تعرفها بلادنا.”
هذه ليست جملة إنشائية، بل تنبيه صريح بأن المشاريع التنموية لا يمكن أن تظل انتقائية، موسمية، أو رمزية، بينما أقاليم ومناطق كاملة تعيش ببطء الحاجة، وبؤس البنيات، وعطش العدالة المجالية.
الملاعب لا تُغني عن الماء، والصورة لا تُعوّض الدواء، والإشعاع لا يُنير مدرسة بلا كهرباء.
ما بعد صافرة النهاية: من يُحاسب؟
حين تنتهي المباريات وتُطفأ الأضواء وتعود الملاعب إلى صمتها، سيبقى المواطن أمام فواتيره القديمة: ماء منقطع، قسم مكتظ، طريق غير معبّدة، علاج مؤجل… ولن تنفعه صورة جوية جميلة من حفل الافتتاح.
المونديال ليس عدوًا، لكن طريقة تدبيره قد تتحول إلى عبء إن لم تُضبط الأولويات، ويُقيَّم المشروع بميزان الكلفة والعائد، لا بجرعة الحماس الوطني.