تحت سقف التوجيهات الملكية السامية التي تضمنها خطاب عيد العرش الأخير، كشفت وزارة الاقتصاد والمالية عن الملامح العريضة لمشروع قانون المالية لسنة 2026، والذي اعتبرته أداة لترسيخ الإقلاع الاقتصادي وتعزيز العدالة المجالية، في لحظة دقيقة من مسار النمو الوطني.
المذكرة التوجيهية للمشروع رسمت معالم استثمار ضخم، يعكس إرادة سياسية واضحة في إعادة تموقع المغرب داخل سلاسل القيمة العالمية، وترسيخ حضوره الاقتصادي قارياً ودولياً.
أزيد من 160 مليار درهم لتوسيع أسطول الخطوط الملكية المغربية، 96 مليار درهم للقطار فائق السرعة بين القنيطرة ومراكش، و25 مليار درهم لتحديث المطارات، إلى جانب مشاريع طاقية ضخمة في مجالي الغاز والهيدروجين الأخضر…
أرقام تعكس حجم الرهان على البنية التحتية كمحرّك للتنمية، وعلى تنظيم التظاهرات الدولية كرافعة جديدة لجلب الاستثمارات.
لكن المثير للتساؤل أن هذه الانطلاقة لم تبدأ فعليًا إلا بعد الخطاب الملكي الذي أشار صراحة إلى أن المغرب يسير بسرعتين. وكأن التعليمات الملكية باتت هي الوحيدة القادرة على تحريك الملفات الثقيلة، وإخراج التصاميم من الأدراج.
مشروع قانون المالية يؤكد أولوية التقليص من الفوارق المجالية والاجتماعية، من خلال جيل جديد من برامج التنمية الترابية، يرتكز على الجهوية المتقدمة، وتثمين الخصوصيات المحلية، وتعزيز التضامن بين الجهات.
مقاربة تنموية تبدو متكاملة على الورق، غير أن تنزيلها يبقى رهينًا بإدارة قادرة على ترجمة الرؤية إلى ورش مفتوح على الأرض، لا مجرد وثائق مرقونة بإتقان.
“مدارس الريادة” تشمل اليوم 1.3 مليون تلميذ، و”مدارس الفرصة الثانية” في طريقها إلى بلوغ 400 مركز بحلول 2030، في إطار محاربة الهدر المدرسي.
أما التكوين المهني، فقد شهد توسعاً ملحوظاً بنسبة 17% في عدد المستفيدين، مدعوماً بافتتاح ثلاث مدن جديدة للمهن والكفاءات.
خارطة الطريق للتشغيل تطمح إلى خفض البطالة إلى 9% في أفق 2030، من خلال 8 مبادرات مهيكلة.
لكن رغم الأرقام الواعدة، يبقى السؤال معلقًا: هل ستتغيّر وضعية الشاب المغربي الباحث عن عمل، أم أننا أمام دورة أخرى من الوعود الموسمية؟
1400 مؤسسة للرعاية الأولية قيد التأهيل، مركزان استشفائيان جديدان سيريان الخدمة في أكادير والعيون، ومجموعات صحية ترابية ستعمل على توحيد تدبير العرض الصحي جهوياً.
كما يتم العمل على رقمنة المنظومة، وتطوير الموارد البشرية للوصول إلى 45 مهنيًا صحيًا لكل 10.000 نسمة.
نموذج جديد واعد، لكن أثره سيقاس بمدى قربه من المواطنين، وبجودة الخدمات، لا فقط بعدد المراكز والمخططات.
4 ملايين أسرة تستفيد من الدعم المباشر، ضمن إصلاح شامل قائم على السجل الاجتماعي الموحد.
في السكن، استفادت أزيد من 57.000 أسرة، مع إعلان 62 مدينة خالية من الصفيح. وفي الحوز، تمت تعبئة 14,5 مليار درهم لإعادة الإعمار، منها 7,3 مليارات دُفعت مباشرة للأسر المتضررة.
برامج تستحق الإشادة من حيث الحجم، لكن فعّاليتها ستُقاس بالنتائج، لا بالأرقام وحدها.
الإدارة العمومية تواصل التحول الرقمي وتبسيط المساطر. القضاء يشهد مراجعة للخريطة القضائية وتحديث السياسة الجنائية بإدماج العقوبات البديلة. كما يُرتقب إصلاح القانون التنظيمي للمالية، بهدف تعزيز التنسيق والشفافية، ووضع سقف جديد للمديونية طويلة الأمد.
هذه التدابير تعكس وعياً بنيوياً بتحديات الحكامة، لكنّ التنفيذ يظل هو الفيصل بين الخطاب والواقع.
النمو الاقتصادي المتوقع لسنة 2026 يصل إلى 4,5%، مدفوعاً بالقطاعات غير الفلاحية.
عجز الميزانية يُرتقب أن ينخفض إلى 3%، والمديونية إلى 65,8%. التضخم مضبوط في حدود 2% بفضل آليات الدعم واستقرار الأسعار.
كلها مؤشرات مطمئنة، لكنّ المواطن لن يلمس التقدّم إلا إذا تغيّر واقعه المعيشي فعليًا:
هل ستتغير المدرسة؟ هل ستتحسّن الخدمة الصحية؟ هل ستُفتح فرص الشغل؟
أم أن الأرقام ستبقى زينة للوثائق… لا للواقع؟
واخا المشروع واعد، المغاربة ما بقاوش كيآمنو بالتصريحات… بغاو يشوفو النتائج.
بغاو يلقاو الخدمة بلا وساطة، والتعليم بلا إذلال، والمستشفى بلا وساطة ولا تعذيب.
لأن الإصلاح ماشي ورقة، الإصلاح هو إحساس المواطن بأن البلاد بدّلات الوجه والمعاملة.