في مغرب الحسابات الخصوصية، ليست المشكلة في غموض الأرقام، بل في هندستها لتبقى غامضة. نحن أمام واقع مالي تُدار فيه الميزانية بيدين، واحدة رسمية تُعرض أمام البرلمان، وأخرى خفية تُصرف في الظل تحت مسمى “الخصوصية”، وكأن المال العام أصبح شأناً داخلياً لا يخص دافعي الضرائب.

من يدفع لا يعلم.
المواطن يقتطع من أجره، ويؤدي الضريبة على القيمة المضافة في كل سلعة وخدمة، لكنه لا يعلم أن جزءاً من هذه الأموال يُحوَّل إلى صناديق لا تُعرف وجهتها بدقة، ولا تُعرض تفاصيلها للنقاش العمومي، ولا يُحاسب أحد على مردوديتها. بل أكثر من ذلك، تُصرف منها أجور وتعويضات خارج الإطار القانوني، كما كشفه المجلس الأعلى للحسابات.

ومن يعلم لا يملك القرار.
حتى من يفترض أنهم حراس المال العام – من برلمانيين، ومفتشين، ومجالس رقابة – يُتركون في موقع العارفين دون أدوات التدخل. يعرفون الخلل، يُوثقونه في تقارير أنيقة، ثم يُوضع التقرير في الرف، وتستمر الدورة: صرف بلا محاسبة، وتمويل بلا مردودية.

إن ما كشفه تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول الحسابات الخصوصية للخزينة لا يطرح فقط إشكالية تقنية أو محاسباتية، بل يفضح فلسفة مالية تُقنن الاستثناء وتحمي الغموض. كيف يمكن قبول وجود 69 حساباً خصوصياً تُصرف منها 290 مليار درهم، دون أن نعرف لماذا، ولمن، وبأي أثر؟ والأدهى، أن بعضها لا يُسجل أي نشاط لسنوات، ويظل قائماً، وكأن القانون خُلق فقط ليُعلَّق.

لسنا أمام خرق بسيط، بل أمام نظام موازٍ للمالية العمومية، لا يمر من البرلمان إلا شكلياً، ولا يُخضع لرقابة حقيقية، بل يعيش ويتكاثر في مناطق رمادية يصعب الاقتراب منها.

الوزارة الوصية تبرر هذا الانحراف بتعقيد المشاريع وتعدد المتدخلين… لكن الحقيقة أبسط من ذلك: إنها إرادة سياسية بعدم المساءلة، وخوف من كشف ما يجب أن يظل مغلفًا باسم “الخصوصية”.

آن الأوان لمقاربة أكثر جرأة: إلغاء الحسابات الخصوصية غير النشطة، إدماج نفقات الأجور في الميزانية العامة، وفرض النشر الإجباري لتقارير دورية عن كل درهم يُصرف في هذه الحسابات. فالمال العام لا يُدار بالتقنيات المحاسباتية وحدها، بل بمنطق السيادة والمساءلة.

وإلى ذلك الحين… سيبقى من يدفع لا يعلم، ومن يعلم لا يملك القرار.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version