بين الدعوات المتكررة إلى التقشف وشدّ الحزام، وتوجيهات رئيس الحكومة بضرورة ضبط نفقات التسيير، تتصرّف بعض المؤسسات العمومية وكأنها تشتغل في بلد آخر، أو في زمن موازٍ لا يخضع فيه الإنفاق لأي حس بالمسؤولية أو أولوية وطنية.
كشفت مصادر إعلامية أن المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية أطلق صفقة لاقتناء 40 سيارة جديدة بمبلغ إجمالي يفوق 10 ملايين درهم.
الصفقة تضم 27 سيارة خفيفة، و5 سيارات “بيك آب” رباعية الدفع، و8 سيارات هجينة قابلة للشحن، ستوزع على مصالح المكتب.
اللافت أن هذه الصفقة تأتي بعد أيام فقط من صدور الرسالة التأطيرية لرئيس الحكومة بشأن مشروع قانون المالية 2026، والتي دعت صراحة إلى وقف نزيف شراء وكراء السيارات الإدارية، وتقليص النفقات غير الأساسية، انسجامًا مع ظرفية اقتصادية واجتماعية دقيقة.
لكن في الواقع، لا شيء يوحي بأن هذه التوجيهات تُحترم أو تؤخذ على محمل الجد.
المشهد يبدو وكأن الحكومة تُنتج خطابًا إعلاميًا لتقليص العجز الرمزي، بينما تُواصل المؤسسات العمومية تدبير الصفقات بهدوء إداري، بعيدًا عن أي مراقبة حقيقية أو تقييد للنفقات.
في وقت تتقلّص فيه القدرة الشرائية، وتُعلّق فيه المشاريع الاجتماعية، ويُطلب من المواطن أن “يتفهّم الظرفية”، تختار الإدارات أن تمضي في شراء سيارات جديدة، بعضها من النوع الفاخر أو الهجين، تحت غطاء “تحديث الأسطول” و”تحسين الخدمات”.
لكن الحقيقة أن هذه الرفاهية تُموَّل من جيوب المنهكين، ومن ضرائب تُقتطع من أجور الفئات المتوسطة والفقيرة، وتُبرّر تحت مسمّيات براقة تخفي واقعًا مترهلاً.
الأدهى أن الحكومة لا تحرّك ساكنًا، وكأنها راضية ضمنيًا عن هذا الانفصام بين البلاغ والسياسة، وبين التوجيه والممارسة.
حظيرة سيارات الدولة تجاوزت 100 ألف مركبة، بكلفة سنوية تتجاوز 1.2 مليار درهم، تُصرف على المحروقات والصيانة والتأمين والكراء، دون أن يخضع هذا الملف لأي مراجعة جذرية أو جرأة سياسية حقيقية.
والنتيجة: ترشيد يقال… وتبذير يُنفذ.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version