كشفت الأسابيع الأخيرة عن مفارقة موجعة في تدبير ملف حرائق الغابات بالمغرب.
فبينما كانت الوكالة الوطنية للمياه والغابات تتباهى، قبل أشهر فقط، بخطة استباقية “غير مسبوقة” لمواجهة نيران الصيف، التهمت الحرائق مجددًا مئات الهكتارات من غابات الشمال، وأعادت سؤالًا قديمًا بصيغة جديدة: أين ذهبت الـ16 مليار سنتيم؟

الخطة التي وُصفت آنذاك بـ”الثورية”، رُصدت لها ميزانية ضخمة تعادل 16 مليون دولار.
وجاءت محمّلة بوعود تكنولوجية مغرية: طائرات مسيّرة، كاميرات ذكية، مستشعرات أرضية، دوريات يقظة، وآليات تدخل سريع.
بل إن البلاغات الرسمية لم تبخل في رسم لوحة وردية لتدخل “الذكاء الاصطناعي” في مواجهة “الذكاء الطبيعي” للنيران.

لكن في حريق الدردارة، كما في مناطق أخرى من شفشاون وتطوان، لم يظهر من هذه الترسانة سوى البلاغات.
على الأرض، ظل رجال الإطفاء يطاردون النيران بخراطيم تقليدية، واستعان السكان بدلاء الماء والعصي، بينما استلقى المنهكون على التراب، وانهارت معهم صورة الخطة الذكية.

مصادر مهنية من القطاع الغابوي عبّرت لـ “نيشان” عن قلقها من “الهوة الواسعة بين ما أُعلن في ماي الماضي، وما تم تحقيقه ميدانياً”.
وأشارت إلى أن “جزءًا من الخطة لم يُفعّل بعد، من ذلك محطات الرصد الذكي التي لا تزال خارج الخدمة، ومسالك النار التي لم تُفتح بالشكل المطلوب”.

وما يزيد الصورة قتامة، شهادات متطوعين ممن واجهوا النيران بأدوات بدائية، في ظل غياب أبسط وسائل الدعم اللوجستي الميداني.
أحدهم قال بالحرف: “لم نرَ طائرات مسيّرة، بل رأينا تعبًا مسيّجًا بصمت المسؤولين.”

رغم أن الوكالة تُصرّ على أن نسبة السيطرة على الحرائق “إيجابية مقارنة بالمواسم الماضية”، إلا أن بيئيين يرون أن الأرقام لا تروي القصة كاملة.
إذ يؤكد الخبير البيئي أيوب مرير أن “فعالية الخطط تُقاس بجاهزية الأرض، لا بتقارير المكاتب”.
ويشدد على أن “16 مليار سنتيم قد تذوب في أول حريق، إذا لم تُصرف حيث يجب، وإذا لم يُدرّب من سيواجه الخطر فعليًا.”

في المقابل، تُثير الطريقة التي أُنفقت بها الميزانية أسئلة مُحرجة.
هل ذهب الجزء الأكبر نحو صفقات تجهيز مركزي، أم تم الاستثمار فعلًا في المناطق الأكثر عرضة للخطر؟
وهل كان من الحكمة بناء سردية الخطة على وهم التكنولوجيا وحدها، بدل توزيع الجهد بين الوقاية، التكوين، والتجهيز الميداني الحقيقي؟

الحرائق لم تأتِ فقط على الأشجار، بل أحرقت أيضًا ثقة الرأي العام في نجاعة السياسات الاستباقية.
فحين تعود النيران إلى نفس المناطق التي عاشت الكارثة في سنوات سابقة، وحين تُكتشف مجددًا نفس العيوب البنيوية، فإننا لا نكون أمام قوة الطبيعة فقط، بل أمام ضعف السياسة.

ويبدو أن الأسابيع المقبلة ستقرر مصير هذه الخطة التي وُعد بها المغاربة، لأن ذروة موسم الحرائق لم تنتهِ بعد.
ولكن ما هو مؤكد أن 16 مليار سنتيم لم تعد رقمًا في ميزانية فقط، بل تحوّلت إلى رقم محكوم عليه بالمحاسبة.

هل تنقذ الخطة ماء وجه المؤسسات؟
أم أن الغابة احترقت، والمال العام تبخّر مع أول دخان؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version