بقلم: عبدالفتاح الحيداوي
- المقدمة
تعد الزوايا الصوفية جزءاً لا يتجزأ من النسيج التاريخي والاجتماعي والديني للمغرب. لم تكن هذه المؤسسات مجرد فضاءات للعبادة والذكر، بل لعبت أدواراً محورية في التربية الروحية والفكرية والسياسية الملكية على مر العصور. فقدمت خدمات دينية وتعليمية واجتماعية، وشكلت ملاذاً ومركزاً للتعليم، ومأوىً للفقراء والمحتاجين، كما كانت في أحيان كثيرة قلعة للمقاومة ضد الغزاة الأجانب وسنداً للشعب في مواجهة السلطة المركزية.
غير أن المشهد الصوفي في المغرب يشهد تحولات عميقة في العصر الحديث، حيث صارت بعض الزوايا، وفي مقدمتها الزاوية البودشيشية، تركز على البعد الحصري للتربية الروحية والفكرية، ما أكسبها نفوذاً رمزياً وسياسياً واجتماعياً واسعاً. هذا التحول أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة هذه المؤسسات ودورها في المجتمع المعاصر، وخاصة مع تزايد ارتباطها بالجانب السياسي والاقتصادي.
- الزوايا التقليدية في المغرب: الدور التاريخي والاجتماعي والسياسي
مثلت الزوايا أصلاً جزءاً من تاريخ المغرب العريق، حيث نشأت وتطورت ككيانات دينية واجتماعية وسياسية مؤثرة منذ القرون الوسطى. لم تكن المؤسسات مجرد أماكن للعبادة والذكر الصوفي، بل كانت بمثابة مراكز متعددة الوظائف: تلبي احتياجات المجتمع الروحية والتعليمية والاجتماعية، بل وتتدخل في الشؤون السياسية في أحيان كثيرة.
ظهرت زوايا المغرب بعد القرن الخامس الهجري، خصوصاً في فترات ضعف السلطة المركزية، ما أتاح لها فرصة لملء الفراغ الذي خلفه هذا الضعف. لعبت دوراً في نشر التربية الروحية والذكر، كما قامت بوظائف اجتماعية: رعاية الفقراء، تعليم الأطفال، فض النزاعات. وفي أوقات الاستعمار، تحولت إلى قلاع للمقاومة المسلحة والروحية.
هذه الزوايا كانت تدخل أحياناً في علاقة تكاملية أو صراعية مع المخزن، بين الدعم المتبادل أو التحدي المباشر.
- الزاوية البودشيشية: النشأة والتطور
تعد فرعاً من الطريقة القادرية، ظهرت في القرن التاسع الهجري على يد الشيخ علي بن مخلوف، وانتشرت في بركان ووجدة.
سميت بالبودشيشية نسبة إلى الشيخ علي بن محمد بودشيش الذي عُرف بإطعامه الطعام للفقراء.
ركزت في بدايتها على الزهد والبساطة والسلوك الصوفي المرتبط بالخلوة والذكر.
عرفت تطوراً متدرجاً على يد عدة شيوخ، حتى برز اسم الشيخ المختار القادري البودشيشي في القرن العشرين الذي قاوم الاستعمار الفرنسي، ثم خلفه ابنه الحاج العباس، وبعده الشيخ حمزة الذي قادها إلى انتشار واسع داخلياً وخارجياً.
- تحولات الزاوية البودشيشية: من الروحانية إلى السلطة الرمزية
ركزت الزاوية في بدايتها على التربية الروحية، لكنها تحولت تدريجياً إلى كيان ذي تأثير رمزي واسع.
في عهد الشيخ حمزة، توسعت الزاوية داخلياً وخارجياً، وأصبحت تستقطب آلاف المريدين ومن مختلف الشرائح.
صار لها نفوذ اجتماعي وسياسي واقتصادي، خاصة مع انفتاحها على النخب والمسؤولين ورجال الأعمال.
تحولت من مجرد فضاء للذكر إلى ملتقى للنخب، وباتت ملتقىً يجمع بين الروحاني والسياسي والاقتصادي.
- العلاقة بين الزاوية البودشيشية والدولة المغربية
تمثل نموذجاً معقداً من التداخل بين الروحي والسياسي.
الدولة استفادت من الزاوية كحصن ضد التطرف الديني، وروجت لها كرمز “الإسلام المعتدل”.
الزاوية استفادت بدورها من دعم الدولة، ما عزز مكانتها ورسوخها.
صارت تحضر في المناسبات الرسمية، وبرز حضورها الإعلامي والدبلوماسي.
- التحالف الواضح بعد 2003
بعد أحداث الدار البيضاء الإرهابية سنة 2003، اتجهت الدولة إلى دعم الزوايا الصوفية، وعلى رأسها البودشيشية، كجزء من استراتيجيتها في محاربة التطرف.
مشاركة رموز الزاوية في الأنشطة الرسمية.
دعمها إعلامياً عبر القنوات العمومية.
حضورها في خطاب الدولة حول التسامح والاعتدال.
انفتاحها على البعد الدبلوماسي بجذب مريدين من أوروبا وإفريقيا.
- من روحانية مطلقة إلى شبكة مصالح
مع توسعها، لم تعد الزاوية مجرد فضاء للروحانيات بل تحولت إلى شبكة مصالح اقتصادية وسياسية.
استقطبت رجال أعمال وشخصيات نافذة، وصار موسمها السنوي مناسبة كبرى تجمع آلاف الزوار، بما يحمله من دينامية اقتصادية وتجارية (فنادق، مطاعم…).
هذا الانفتاح جعلها حاضرة في قلب المشهد المغربي، لكنها في الوقت ذاته فقدت بعضاً من روحانيتها الأصلية لصالح مصالح النخب.
- الأبعاد الحديثة للزاوية
البعد الدبلوماسي: صارت أداة للسياسة الخارجية، تعزز صورة المغرب كبلد “الإسلام المعتدل”.
البعد الاجتماعي: ما زالت تقدم مساعدات وتلعب دور الوساطة الاجتماعية.
البعد السياسي: توظيفها في المشهد السياسي الداخلي والخارجي.
البعد الاقتصادي: حضورها في شبكة رجال الأعمال وشراكات اقتصادية غير مباشرة.
9.
تُظهر الزاوية البودشيشية نموذجاً للتحول من الروحانية الخالصة إلى سلطة رمزية متشابكة مع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فهي من جهة فضاء روحي يكرس التصوف المعتدل، ومن جهة أخرى أداة في يد الدولة لتكريس الاستقرار ومواجهة التطرف.
لكن هذا التحول يثير سؤالاً أساسياً: هل ما زالت الروحانية هي المحرك الجوهري للزاوية، أم أنها صارت مجرد واجهة تُستثمر في لعبة التوازنات والمصالح؟