تضارب المصالح في المغرب لم يعد ترفاً نظرياً ولا مجرد جدل في الهوامش السياسية، بل صار لبّ السؤال حول طبيعة الحكم والتدبير.

فحين يجمع رئيس الحكومة بين مسؤولية سياسية عليا ومصالح اقتصادية ممتدة في قطاعات استراتيجية، يصبح الفصل بين العام والخاص خطاً واهياً، وتتحوّل القرارات العمومية إلى موضع شك مشروع.

منذ تحرير أسعار المحروقات سنة 2015، تغيّرت معادلة السوق رأساً على عقب. تقارير مجلس المنافسة ـ وهي وثائق رسمية أثبتت أن شركات التوزيع راكمت أرباحاً استثنائية على حساب القدرة الشرائية للمواطن.

التقرير كشف أن السوق تشتغل بمنطق متوازٍ يرفع الأسعار، وأن التنافس الحقيقي شبه غائب.

المفارقة أنّ أحد أبرز الفاعلين في هذا السوق هو نفسه رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش. فكيف يمكن لمواطن أن يصدق حيادية القرار حين يرى أن السلطة التنفيذية تغض الطرف عن تسقيف الأسعار، أو تمتنع عن فرض ضريبة استثنائية على أرباح فاحشة؟ هنا لا نتحدث عن شبهة بسيطة، بل عن تضارب مصالح معلن يضعف ثقة الناس في المؤسسات.

قانون المالية الأخير نصّ صراحة على تخفيض الضريبة على الشركات الكبرى من 30% إلى 20%. خطوة قُدمت في الخطاب الرسمي كجزء من إصلاح هيكلي لدعم الاستثمار وتعزيز تنافسية الاقتصاد.

لكن حين نقرأ التفاصيل، نكتشف أن المستفيد الأول من هذا التخفيض هي كبريات الشركات التي تشبه إلى حد التطابق شركات رئيس الحكومة نفسه.

المشكلة ليست في خفض الضريبة بحد ذاته، بل في رمزية أن يوقّع رجل الأعمال ـ بصفته رئيساً للحكومة ـ على قرار يخفض العبء الضريبي على عالم الأعمال الذي ينتمي إليه.

إنها صورة صارخة لتقاطع المواقع، حيث يصبح السياسي مشرّعاً لمصلحته الاقتصادية الخاصة.

خلال السنوات الأخيرة، أعلنت مجموعة “المدى” (SNI سابقاً) في بلاغاتها الرسمية عن توسع غير مسبوق في قطاعات المناجم والطاقة والطاقات الجديدة. من استحواذها على 90% من منجم “بوتو” في السنغال، إلى دخولها عبر فرع “ناريفا” في مشروع الهيدروجين الأخضر بغلاف استثماري يفوق 330 مليار درهم، تبدو المجموعة وكأنها تعيش عصرها الذهبي.

هذه الاستثمارات تحمل في ظاهرها طابعاً استراتيجياً وطنياً، لكنها تُدار في ظل غياب مجلس منافسة فاعل أو مؤسسات رقابية قوية.

أي أن القرارات التي تُعيد رسم خريطة الاقتصاد الوطني تتم بعيداً عن أي نقاش عمومي حقيقي، وبمنطق يثير التساؤل حول من يضع قواعد اللعبة: الدولة أم شبكة مصالح اقتصادية ضيقة؟

الملف لا يتوقف عند النفط والمناجم. ففي قطاع الغاز، أعلنت الشركة البريطانية “ساوند إنرجي” ـ رسمياً عبر بلاغاتها في بورصة لندن أنها حصلت على إعفاءات ضريبية وجمركية غير مسبوقة لمشروعها في تندرارة.

امتيازات بهذا الحجم قد تُفهم في سياق جذب الاستثمارات الأجنبية، لكن حين تكون الحكومة التي منحتها يقودها فاعل اقتصادي منغمس في مجال الطاقة، يصبح التساؤل مشروعاً: هل نحن أمام سياسة عمومية وطنية، أم أمام تنازلات تخدم شبكة مصالح ضيقة؟

الجوهر ليس وجود استثمارات، ولا نجاح مشاريع طاقية أو صناعية. المشكل يكمن في تآكل الحدود بين الفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي. فحين يجتمع الحكم والمال في يد واحدة، يفقد القرار العمومي حياده، وتفقد المؤسسات مصداقيتها.

اليوم، يواجه المغرب معضلة بنيوية: رئيس حكومة يجلس على كرسي السلطة التنفيذية وفي الوقت نفسه يتربع على عرش مصالح اقتصادية كبرى.

النتيجة هي ضعف ثقة المواطن، وازدياد الشكوك في أن السياسة لا تُدار لخدمة الصالح العام، بل لخدمة موازين الربح والخسارة في السوق.

الخلاصة

تضارب المصالح في التجربة المغربية ليس مجرد “اتهام”، بل حقيقة تترجمها وثائق رسمية:

تقارير مجلس المنافسة حول سوق المحروقات.

مواد منشورة في قانون المالية بخصوص التخفيض الضريبي.

بلاغات مجموعة المدى حول توسعها الاستثماري.

تصريحات وبلاغات Sound Energy المنشورة رسمياً في بورصة لندن.

إنه واقع يُظهر أن الدولة، في لحظات كثيرة، تُدار بعيون المقاولة لا بعيون المواطن.
وهذه هي أخطر صورة لأي تجربة سياسية: حين يصبح الحَكم واللاعب شخصاً واحداً.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version