الرباط تتغير.
ليس في طرقاتها أو بناياتها فقط، بل في فلسفة عمرانها ومصير ساكنتها.
حي المحيط لم يعد كما كان، ولم يعد في نظر البعض سوى مجال قابل لإعادة الهيكلة وفق منطق لا يرى في الإنسان إلا عائقًا تنظيميا أو تفصيلًا قابلًا للحذف.
الجرافات تشتغل بصمت، والإشعارات تصل في مواعيد غير قابلة للتفاوض، والوجوه التي عمرت الحي لعقود تُحمَل على الرحيل بهدوء، لا لأنهم خالفوا قانونًا، بل لأن الحي لم يعد ملائمًا للصورة الجديدة للعاصمة كما يتصورها المخططون.
لا بلاغ رسمي يشرح، لا ندوة تبرر، فقط واقع ميداني يتقدم بثقة نحو إعادة تشكيل المدينة من دون سكانها الأصليين.
الوالي محمد اليعقوبي لا يعلن، بل ينفذ، يُعيد رسم التوازنات بعقيدة المشروع الكبير، ويضع معايير جديدة لما يليق وما لا يليق.
العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان كشفت، في تصريحات لوسائل إعلام، أن ما يجري هو “إفراغ قسري مقنّع”، مؤكدة أنها لم تتلقَّ أي رد رسمي لحد الآن.
وعلى الورق، تبدو كل الإجراءات سليمة: بيع، إشعار، تعويض، لكن خلف الكواليس، هناك من يقول إن الأسعار تُفرض، والوقت يُضيَّق، والخيار الوحيد هو مغادرة البيت قبل أن تصل الجرافة.
هذا ليس تأويلًا صحفيًا، بل شهادات حيّة من أرض الميدان، وثّقتها صحف وطنية ووسائل إعلام دولية بدأت تتابع الملف بقلق متزايد.
الرباط تستعد لاستقبال كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، والمشاريع الفندقية تنبت بسرعة مذهلة، فبحسب الوكالة الحضرية، تم الترخيص لأزيد من 77 فندقًا جديدًا خلال سنة واحدة، أغلبها في المدينة نفسها، والباقي موزّع بكميات رمزية في محيطها.
المعادلة واضحة: الحي يُهدم، الأرض تُفرغ، والرخص تُمنح.
المونديال ليس مجرد بطولة، بل تحول عمراني عميق يُعاد من خلاله توزيع النفوذ، والمواقع، والمكاسب العقارية.
التنمية مطلوبة، نعم، والتهيئة ضرورية، لكن بأي ثمن؟
وهل من المقبول أن يُبنى المستقبل فوق أنقاض الحاضر؟
وهل يصبح المواطن خارج المشروع لأن بيته لا يُناسب دفتر التحملات؟
حي المحيط اليوم ليس فقط في قلب الهدم، بل في قلب السؤال الكبير: هل المدينة تُبنى لسكانها، أم تُفرَّغ لتُجهَّز لسواهم؟
الخطير في ما يجري ليس الهدم في حد ذاته، بل الصمت الذي يرافقه، وكأن شيئًا لا يحدث، وكأن الإخلاء تم بطريقة حضارية تمامًا، بينما الواقع يصرخ بعكس ذلك.
نحن لا نُدافع عن العشوائية، ولا نعارض التطوير، لكننا نسائل منطق الإقصاء المقنّع، حيث يُنتزع الحق باسم المصلحة، ويُعاد توزيع الفضاء باسم الاستثمار.
المواطن هنا لا يُستشار، بل يُتَوصل معه.
لا يُقدَّر استقراره، بل يُعاد تقييمه بسعر المتر المربع.
وهكذا تصبح المدينة سلعة، ويُصبح السكان هامشًا.
قد يربح المستثمر، وقد تُبهر الصورُ الزوار، لكن الثمن سيُكتب في سطور لا تُعرض في النشرات، بل في ذاكرة من أُخرجوا ذات صباح من منازلهم، باسم “المصلحة العليا”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version