في المغرب، يطل رجل الظل بملامح هادئة لكنه يمسك بخيوط كثيرة في آن واحد. ليس وزيرًا عاديًا، ولا مجرد تقنوقراطي مكلف بملف تقني، بل فاعل يتجاوز حدود موقعه ليصير مهندسًا للسياسات الكبرى، يرسم الخطوط العريضة للدولة، ويوزع الموارد، ويقرر الأولويات. إنه الحاضر الغائب: لا يخاطب الجمهور كثيرًا، لكنه يكتب السيناريو الذي يتحرك به الجميع.

كأس العالم 2030، الذي رُفع له شعار “المشروع الوطني الجامع”، لم يبق في حدود الرياضة أو البنية التحتية، بل تحوّل إلى شبكة مصالح اقتصادية ومالية تمر عبر رجل الظل.

كل ملعب يُبنى، كل طريق تُشق، كل فندق يُهيأ، يحمل في خلفيته سؤالًا واحدًا: من اختار هذه الشركة؟ من مرر لها الصفقة؟ كيف رُسمت الأولويات؟ المونديال هنا لم يعد مجرد حلم شعبي، بل آلية لإعادة توزيع السلطة والمال، حيث تتقاطع الشركات الكبرى، والمؤسسات العمومية، والبنوك، في دائرة ضيقة تُدار بعناية، دون نقاش عمومي ولا مساءلة برلمانية.

لكن الحكاية لا تقف عند الرياضة. ففي عمق الاقتصاد، يظهر رجل الظل كمقرر أول. من الصناديق السوداء إلى البرامج الاجتماعية، من المقاصة إلى الاستثمارات الضخمة، هو من يحدد الاتجاهات. قد يقرر في لحظة تقليص دعم غاز البوطان أو السكر، وفي لحظة أخرى يُطلق مليارات الدراهم نحو مشاريع الطاقات والبنى التحتية.

هنا لا يتعلق الأمر بتقنية محاسباتية فقط، بل بسلطة سياسية فعلية تُمارس عبر المال العام. هكذا يجمع بين التحكم في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن البسيط وبين صياغة مستقبل الاقتصاد الوطني، بين “كسرة الخبز” و”المشروع الاستراتيجي” في آن واحد.

وفي الفلاحة والماء والبيئة، يعيد إنتاج نفس النفوذ. رجل الظل يدير مخططات التنمية، يوزع الدعم، ويقرر أي مشروع يمر وأي استثمار يُؤجل. “المغرب الأخضر”، “الأمن المائي”، “الانتقال الطاقي” كلها شعارات تُرفع في العلن، لكنها في العمق تمر من بوابة واحدة.

اليابس والأخضر، الموارد الطبيعية والبرامج البيئية، كلها تتحرك داخل شبكة متماسكة تجعل من القرار مسألة نفوذ أكثر منه سياسة عمومية.

حتى البرامج الاجتماعية التي يُفترض أنها خط الدفاع الأخير لحماية المواطن تمر عبر يده. من المقاصة إلى صناديق الدعم الجديدة، يظل هو من يرسم قواعد اللعبة. متى يُزاد الدعم أو يُخفض، من يستفيد ومن يُقصى، كيف تُوزع الإعانات، كلها أسئلة لا يجيب عنها البرلمان بل يحددها رجل الظل من مكتبه. المواطن يراها تفاصيل مالية، لكنها في العمق أدوات لإدارة التوازنات الاجتماعية والسياسية.

بهذا الامتداد، يتحول رجل الظل إلى حكومة داخل الحكومة. الوزراء الآخرون يعقدون الندوات، يصرّحون، يبتسمون أمام الكاميرات، لكن القرار الحقيقي يُصاغ في مكاتب مغلقة حيث تتجمع التقارير وتُرسم الخرائط النهائية. المؤسسات المنتخبة تظل واجهة ناعمة، أما العمق فيظل بيده.

وهنا تطرح الأسئلة الثقيلة نفسها: من يحاسب رجل الظل؟ من يراقب كيف تمر صفقات المونديال؟ من يتتبع مسار الشركات التي تُمنح لها المشاريع الكبرى؟ أين البرلمان؟ أين المجالس الدستورية التي وُجدت لتضمن ربط المسؤولية بالمحاسبة؟ غياب الإجابة يجعل السلطة تُدار في دائرة مغلقة، حيث تتجمع الخيوط كلها في يد واحدة، فيما الآخرون مجرد منفذين.

والأهم أن حضور رجل الظل لا يقتصر على الحاضر. فهو سيطل حتى في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، لأن موقعه لا يتأثر بالخريطة الحزبية ولا بالتحالفات السياسية. الأحزاب تتغير، الألوان تتبدل، المقاعد تُفقد وتُكتسب، لكنه يظل حاضرًا، يعيد إنتاج نفسه في كل دورة سياسية، ويواصل صياغة القرار بعيدًا عن صندوق الاقتراع وبعيدًا عن النقاش العمومي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version