بقلم: الحيداوي عبد الفتاح

تعيش الساحة السياسية المغربية منذ عقود على إيقاع متكرر من الانتخابات والبرامج البعيدة والوعود الانتخابية التي غالبا ما تنتهي بخيبات أمل متكررة لدى المواطنين.

يتسم المشهد الحزبي المغربي بخصوصية فريدة، حيث تظل المؤسسة الملكية الفاعل السياسي الأول، فيما تبقى الأحزاب السياسية ضمن هامش محدود، مما يجعلها أدوات انتخابية أكثر من كونها قوى حقيقية للتغيير.
فالحزب، سواء كان يساريا أو يمينيا أو إسلاميا، يكاد يكون مجرد مكرر لخطاب أو رؤى متعارف عليها ومقدمة بعبارات مختلفة، دون إبداع أو إقناع للمواطن.

وهذا ما يفسر ضعف الثقة الشعبية في جدوى التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وغياب سياسات تقنية وواضحة ومشاريع قابلة للقياس والمحاسبة.

إعادة إنتاج الخطاب السياسي وغياب البدائل الحقيقية، يعد من أبرز التحديات التي تواجه الأحزاب المغربية. وتحاول هذه الدراسة تحليل أبعاد الأزمة، وتفكيك طبيعة الخطاب السياسي السائد، ونقاش بنية النظام السياسي وعلاقته بالأحزاب، كما ستسلط الضوء على ظاهرة صعود الشعبوية، والصعوبات البنيوية التي تعرقل قيام الأحزاب بدورها السياسي.

كما تناقش الدراسة أيضًا أبعاد العلاقة بين الأحزاب السياسية ودور المجتمع المدني كفاعل جديد في الساحة السياسية، وأخيرًا، تقدم قراءة في استمرارية استفراغ المؤسسات الحزبية في المغرب في ظل التحولات الراهنة.

السياق التاريخي ودور المؤسسة الملكية

لفهم الوضع الراهن للأحزاب السياسية في المغرب، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الأحزاب، وإبراز الدور المحوري الذي لعبته وتلعبه المؤسسة الملكية.
فالسلطة الملكية ظلت منذ الاستقلال الضامن للاستقرار والوحدة الوطنية. وقد ارتبط دور الأحزاب بالتحكم في التوازن السياسي ومنع هيمنة أي تيار معين. على سبيل المثال، تأسس الاتحاد الاشتراكي في 1983 كمعارضة معتدلة، بهدف خلق توازن في المشهد السياسي ومنع هيمنة تيار معين. كما سيل لاحقا مع تأسيس الاتحاد الدستوري سنة 1983.
غير أن هذا الوضع أدى إلى تراجع دور الأحزاب في صياغة السياسات العمومية وتقديم الحلول التنموية، حتى باتت المبادرات الكبرى في يد المؤسسة الملكية. كما أن تدخل الملكية في تدبير بعض الأزمات أو دعمها، كان يهدف لخلق توازن في المشهد السياسي، ومنع هيمنة أي تيار معين.

إعادة إنتاج الخطاب وغياب البدائل

تعد ظاهرة إعادة إنتاج الخطاب السياسي وغياب البدائل الحقيقية من أبرز التحديات التي تواجه الأحزاب المغربية. يتكرر نفس الخطاب بين برامج الأحزاب، بحيث لا تقدم للمواطنين بدائل حقيقية أو تصورات مختلفة. بل يقتصر الأمر على إعادة صياغة نفس الخطاب بعبارات أخرى.
يمكن تفسير هذه الظاهرة بعدة عوامل مختلفة:

  1. تأثير الشعبوية

لقد شهد المشهد السياسي المغربي صعودا مطردا للشعبوية، التي أصبحت “أسلوبا مميزا للخطاب السياسي المغربي”.

هذا الصعود جاء مع بروز قوى تمجد الخطاب العاطفي أكثر من العقلاني، حيث تراجع دور النخب المثقفة في السياسة، وصعد دور السياسيين الشعبويين.
يرى إدريس الكنبوري أن “الخطاب الشعبوي يعتمد بشكل كبير على عواطف الناس”، فيما يرى آخرون مثل إدريس الفينة أن “الشعبوية ليست سوى إعادة إنتاج نفس الخطاب القديم”.
أما الفيلسوف محمد بوطالب، فيرى أن هذا الخطاب “يجذب بقاء الشعب المغربي في مستوى الوجود الأدنى المتمثل في الهتافات والحماس والسمع والطاعة”، دون أن يعكس فهما أعمق للواقع السياسي.
هذا يعني أن الأحزاب، في سعيها لكسب رضا “الشعب”، تلجأ إلى شعارات عامة وتبسيطيات، بدلا من طرح سياسات عمومية واضحة ومشاريع قابلة للقياس والمحاسبة. مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الخطاب دون تقديم بدائل حقيقية.

غياب الديمقراطية الداخلية

تعد أزمة الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب المغربية سببا رئيسيا في غياب البدائل. فما زالت القيادات التقليدية تسيطر على الأجهزة الحزبية، مما يمنع بروز وجوه جديدة ورؤى شبابية قادرة على قيادة التغيير. هذا الانغلاق في التجديد الداخلي يحرم هذه الأحزاب من تطوير رؤى جديدة وبرامج مبتكرة تستجيب لتطلعات المواطنين.

التركيز على المناصب بدل البرامج

بدلا من التنافس على أساس البرامج والرؤى المستقبلية، يبدو أن الأحزاب المغربية تركز بشكل أكبر على “تقاسم المناصب” و”التحالفات السياسية”.
هذا التركيز على الجانب التكتيكي والعملي للعمل السياسي، على حساب الجانب البرامجي والإيديولوجي، يؤدي إلى فراغ في النقاش العمومي. فإذا كانت التحالفات تفرض نفسها من الناحية العملية، فإن غياب بدائل حقيقية للبرامج يجعل من هذه التحالفات مجرد آلية لتوزيع المناصب أكثر من كونها وسيلة لتطبيق برامج سياسية.

أزمة الثقة والعزوف الانتخابي

شهدت نسب المشاركة في الانتخابات الأخيرة (2021) تراجعا مقلقا، حيث بلغت المشاركة 50.35% فقط، أي أقل بكثير من نسبة 2016 (43%). بل إن نسبة مشاركة الشباب (18-30 سنة) في الانتخابات التشريعية الأخيرة كانت ضعيفة جدا، بحيث لم تتجاوز 5%.
هذا العزوف يعكس حجم الإحباط الذي يعيشه المواطن اتجاه العملية السياسية، وشعوره بأن الأحزاب لا تعبر عن تطلعاته في التغيير.

المجتمع المدني كبديل

في ظل هذا التراجع لدور الأحزاب السياسية، بدأ المجتمع المدني يشكل بديلا أكثر فعالية. فقد برزت جمعيات حقوقية، وتنظيمات شبابية، ومنظمات مهنية تدافع عن قضايا عمومية بشكل متزايد.
أصبح المجتمع المدني يملأ الفراغ الذي تركته الأحزاب، ويؤثر على السياسات العامة، من خلال تنظيم حملات مدافعة، ومشاريع محلية، وحملات للتوعية.
هذا التحول يطرح سؤالا كبيرا حول مستقبل الأدوار التقليدية للأحزاب السياسية، في ظل تزايد تأثير المجتمع المدني.

الخاتمة

تظهر هذه الدراسة أن الأحزاب السياسية في المغرب تواجه تحديات عميقة تتجاوز مجرد التنافس الانتخابي. فإعادة إنتاج الخطاب، وغياب البدائل الحقيقية، وأزمة الثقة المتنامية بين المواطنين والأحزاب، كلها مؤشرات على جمود سياسي يهدد بانتكاس المشاركة الديمقراطية.
إن الدور المحوري للمؤسسة الملكية، وصعود الشعبوية، وغياب الديمقراطية الداخلية، والتركيز على تقاسم المناصب بدل من البرامج، كلها عوامل ساهمت في هذا الوضع.

إن مستقبل الأحزاب السياسية في المغرب مرهون بقدرتها على التجديد والإصلاح. فإذا لم تتجدد الوجوه، ولم تتبدل الأفكار، ولم تنفتح الأحزاب على الشعب، فإن مستقبلها سيكون “إعادة تدوير الأزمة ذاتها”.
والنتيجة: عزوف أوسع، وانفصال أعمق بين السياسة والمجتمع.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version