يطرح المشهد الإعلامي المغربي سؤالاً مقلقاً يتجاوز حدود المهنة إلى جوهر الدولة نفسها: كيف لبلد بحجم المغرب، بتاريخ طويل وعمق حضاري وموقع جغرافي استراتيجي، أن يظل عرضة للاهتزاز كلما نُشر مقال في صحيفة أجنبية؟ كيف يمكن لبلد يصرف ملايين الدراهم سنوياً على إعلامه العمومي والخاص، دعماً مباشراً وغير مباشر، أن يجد نفسه في كل مرة عارياً أمام الرأي العام الدولي، يبحث عن “ردود” متأخرة بدل أن يمتلك قدرة المبادرة وصناعة السردية؟
كشفت مصادر أن ما يُفترض أن يكون جبهة سيادية متقدمة، تحول في كثير من الأحيان إلى جهاز إداري ضخم ينتظر الإشارة قبل أن يتحرك. المنطق السائد داخل المؤسسات الإعلامية الرسمية ما يزال منطق الضوء الأخضر والضوء الأحمر، وكأن الإعلام يعيش على توقيت بيروقراطي لا علاقة له بزمن الشبكات.
لكن قضايا السيادة لا تنتظر الضوء الأخضر ولا الأحمر؛ لأن الزمن الإعلامي سريع، ومن يتأخر يفقد الميدان، ويترك الساحة فارغة أمام من يملك الجرأة والقدرة على المبادرة.
المفارقة أن المغرب يتوفر على طاقات بشرية إعلامية محترمة، صحافيين أكفاء، وتجارب تراكمت لعقود. غير أن المشكل لا يكمن في الأفراد، بل في البنية التي تُكبّل المبادرة وتُحاصر الخيال المهني داخل حدود البلاغات الرسمية.
هنا يصبح السؤال أعمق: هل المطلوب من الإعلام الوطني أن يكون مجرد صدى لصوت الإدارة، أم أن يكون صوتاً استراتيجياً يعكس نبض المجتمع ويحمي صورة الدولة في الخارج؟
إن مفهوم السيادة الإعلامية لا يقل أهمية عن السيادة الاقتصادية أو العسكرية. فكما أن الدولة لا يمكنها أن تترك حدودها مفتوحة أمام أي تهديد خارجي، لا يمكنها أيضاً أن تترك جبهتها الإعلامية مكشوفة.
الإعلام هنا ليس ترفاً، ولا مجرد وسيلة ترفيهية، بل هو الدرع الناعم الذي يحمي صورة الوطن في الداخل والخارج. وإذا لم يكن هذا الدرع صلباً ومؤثراً، فإنه يتحول إلى الثغرة الصامتة في جدار الدولة: ثغرة غير مرئية بالعين المجردة، لكنها خطيرة لأنها تسمح للآخر أن يتحدث باسمنا ويعيد صياغة صورتنا بما يخدم أجنداته.
ولعل ما يغيب عن كثيرين أن الإعلام ليس مجرد قطاع خدماتي، بل ركيزة أساسية ضمن أدوات القوة الناعمة للدول. فالقوة الناعمة لا تُختزل في الثقافة والفن والدبلوماسية الأكاديمية فقط، بل تقوم أيضاً على الإعلام كمنصة لصياغة الصورة الذهنية وإنتاج المعنى.
اليوم، من يملك خطاباً إعلامياً متماسكاً، موزعاً بلغات العالم، قادراً على التأثير في الرأي العام الدولي، فإنه يراكم قوة استراتيجية تعادل في تأثيرها السلاح والدبلوماسية.
خصوم المغرب فهموا هذا الدرس مبكراً. أنشؤوا منصات إعلامية موجهة للرأي العام الأوروبي والإفريقي والأمريكي، استثمروا في إنتاج مضامين رقمية، واستعانوا بخبراء للتأثير في النقاشات الكبرى. في المقابل، ظل الإعلام العمومي المغربي يشتغل بعقلية داخلية، وكأن المعركة لا تتجاوز حدود الجغرافيا المحلية.
وهكذا، حين تنفجر حملة إعلامية معادية في الخارج، نجد أنفسنا في موقع الدفاع المتأخر، نحاول التوضيح بعدما تكون الرواية الأخرى قد ترسخت.
وإذا كان هذا الخلل ينعكس على صورة المغرب خارجياً، فإنه يترك أثره أيضاً في الداخل. فالمواطن، الذي يُفترض أن يجد في إعلامه مرآة تعكس تطلعاته، لم يعد يرى فيه سوى واجهة بيروقراطية، تكرر نفس الخطاب، بلا خيال ولا حرارة. ومع غياب الثقة في الداخل، يصبح من الصعب إقناع الخارج، لأن الإعلام الذي لا يربح جمهوره المحلي لن يربح المعركة في الساحة الدولية.
إن التحدي اليوم ليس في ضخ المزيد من الميزانيات، بل في إعادة تعريف وظيفة الإعلام الوطني. المطلوب إعلام استراتيجي يسبق الحدث ولا يلهث وراءه، يمتلك قدرة استباقية على صياغة السردية الوطنية، ويتحول إلى أداة من أدوات القوة الناعمة المغربية.
ذلك أن المعركة الإعلامية لم تعد خياراً جانبياً، بل صارت جزءاً من الأمن القومي: من يملك الكلمة يملك التأثير، ومن يملك التأثير يحدد مسار القرارات.
الخلاصة أن الاستثمار في إعلام جامد هو استثمار في الفراغ، وأن السيادة الإعلامية لا تُبنى بالميزانيات وحدها، بل بالرؤية والإرادة.
من يملك إعلاماً قوياً يكتب قصته بيده، ومن يترك هذه الجبهة شاغرة سيظل دائماً تحت رحمة أقلام الآخرين. أما المغرب، وهو مقبل على رهانات تاريخية كالمونديال والتموقع الإفريقي، فإنه لا يملك ترف الانتظار. القوة الناعمة، وفي قلبها الإعلام، ليست ترفاً… بل ركيزة من ركائز السيادة في القرن الواحد والعشرين.