يختلف عبد الإله بنكيران عن باقي الزعماء السياسيين في المغرب، فحين يتحدث لا يقرأ من ورق ولا يلتزم بنص مكتوب مسبقًا، بل يحوّل ذاكرته السياسية والدينية والشخصية إلى منبر مفتوح، وفي خطابه الأخير الذي امتد لساعات لم يقدّم مجرد مداخلة حزبية بل أشبه بمحاضرة في “تاريخ الدولة والسياسة بالمغرب”، جمع فيها بين السرد الشخصي والتحليل السياسي والتحذير الأخلاقي، مستخدمًا أسلوبًا مباشرًا وصريحًا تتخلله النكتة والمرجعيات الدينية والعبارات الشعبية من قبيل “شدّتني الرعـادة” أو “طلقوا اللعب”.

منطلق بنكيران الأساسي أن الانتخابات ليست لعبة بل مصير وطن، إذ قال: “الانتخابات هي اللي كتجيب لك الحكومات والبرلمانيين والجماعات… ماشي لعب، هادي مسؤولية مستقبل ولادنا”، وبهذا يقدّم الانتخابات باعتبارها البوابة الوحيدة لأي تغيير والوسيلة الوحيدة لمحاسبة المسؤولين أو تجديد النخب، لكنه في الوقت نفسه يحذّر: إذا انعدم الإقبال وانسحب المواطنون من صناديق الاقتراع فإن اللعبة كلها تتحوّل إلى مسرحية بلا جمهور وتترك المجال مفتوحًا أمام “المخلوقات غير الصالحة” التي قد تصل للحكم بلا كفاءة ولا شرعية.

أكثر ما شدّد عليه بنكيران هو دور وزارة الداخلية التي وصفها بأنها “المسؤولة الأولى نفسيًا عن نجاح أو فشل العملية الانتخابية”، وقال بصراحة: “يا وزارة الداخلية، بعد الله، كلشي في يديك… المشكل ماشي قانوني، المشكل سياسي”، فالمطلوب عنده ليس نصوصًا وقوانين جامدة بل خلق “جو ثقة” يسمح للمواطنين بالمشاركة، وإذا غاب هذا الجو فالنتيجة هي العزوف، وهو أخطر من التزوير نفسه لأنه يفرغ الديمقراطية من معناها.

وعندما وصل إلى النقاش حول “الملكية البرلمانية” وشعار “الملك يسود ولا يحكم” استعمل تعبيرًا لافتًا: “شدّتني الرعـادة”، أي الخوف الشديد، فبالنسبة له فكرة أن يقود رئيس حكومة المغرب بلا إشراف ملكي أمر مخيف، وقال: “الملوك عندهم مشروعية تاريخية ودينية وأخلاقية… ماشي بحال شي واحد ما عرفت منين جا يصبح هو اللي يحكمك”، وبهذا يضع سقفًا واضحًا: لا مجال للمساس بدور الملك، ليس لأنه خيار سياسي فقط بل لأنه ضمانة وجودية لاستقرار الدولة.

خطاب بنكيران كان أيضًا جولة في الأرشيف، حيث استعاد نزاع الصلاحيات بين محمد الخامس والحركة الوطنية، وتحدّث عن صدامات الحسن الثاني مع الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي، وروى انتخابات 1977 وما رافقها من تدخلات، واسترجع انتخابات 2002 حين انتقل حزبه من 14 إلى 42 مقعدًا وكيف اعترف خصومه بأن بعض المقاعد كانت له، ثم توقّف عند 2011 حيث اعتبر أن الملك “اختصر المسافة” باستباق الإصلاحات وإجراء انتخابات مبكرة، وهذا الاسترجاع لم يكن للتأريخ فقط بل لتأكيد أن ما يقع اليوم استمرار لمسار طويل حيث الداخلية كانت دائمًا فاعلًا رئيسيًا والملكية حارسًا نهائيًا.

الخطر الأكبر في نظر بنكيران هو العزوف، إذ قال: “إذا الناس عافوا هذا الشي وخرجوا من المعركة، النتيجة هي أن المخلوقات غير الصالحة هي اللي غادي توصل البلاد للخراب”، فهو يرى أن غياب المشاركة الشعبية يفتح الباب أمام الأعيان وشبكات المصالح واللوبيات التي لا تملك مشروعًا وطنيًا بل تبحث عن حماية ثرواتها أو زيادتها.

ولم يكتف بالداخل بل قارن المغرب بدول أخرى فقال: “كنا معاها في نفس المستوى بعد الاستقلال، اليوم كوريا قوة صناعية ونحن ما زلنا متأخرين”، وعن سنغافورة: “بلد صغير، لا موارد طبيعية، ومع ذلك سبقنا بأشواط”، وعن الصين: “في 1956 كانوا مثلنا أو أقل، اليوم قوة عالمية”، وعن تونس: “جربت لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات، النتيجة عزوف 79%”، أما مصر وليبيا وسوريا فقال: “أنظمة ملكية أو جمهورية ضيعت استقرارها واليوم تعيش أزمات لا تُقارن”، ومن خلال هذه المقارنات أراد أن يبيّن أن المغرب تجنّب الانهيار بفضل استمرارية الملكية لكنه في المقابل ضيّع فرصًا للنهوض الاقتصادي بسبب الصراع بين القوى السياسية والسلطة.

ولم ينس بنكيران الدفاع عن حزبه فقال: “ما عمر شي واحد من العدالة والتنمية تتابع بملفات فساد كبرى… اللي كاين مجرد حالات معزولة”، وذكّر بمشاريع نفّذها مناضلوه في الجماعات والمدن: من تهيئة القصر الكبير إلى إصلاحات الدار البيضاء إلى حماية مالية الدولة من صفقات مشبوهة، لكنه اعترف أن الحزب “فشل في تسويق إنجازاته”.

وفي النهاية بدا خطابه أشبه بوصية سياسية، فالديمقراطية ضرورة لا غنى عنها، والانتخابات مصيرية لا يمكن العبث بها، ووزارة الداخلية مطالبة بخلق الثقة وإطلاق اللعب، والمؤسسة الملكية هي الضمانة النهائية، والعزوف هو التهديد الأخطر للمغرب، ليختم بتحذير صريح: “طلقوا اللعب… وإلا فالخطر هو العودة للديكتاتورية”.

لغة بنكيران في مجموعها مزيج من التديّن الشعبي والحكمة السياسية والذاكرة الحزبية، يخاطب الشباب بلهجة الأب، ويهاجم خصومه بحدة، ويُثني على الملكية كضامن وحيد، لكن بين السطور يحمل خطابه رسائل مفخخة: أنه لا يثق في حياد وزارة الداخلية، وأنه يخشى من تآكل الثقة الشعبية في السياسة، وأنه يراهن على عودة “المعقول” كطريق لإنقاذ التجربة الديمقراطية، وهكذا يتحوّل كلامه من مجرد خطاب حزبي إلى وثيقة سياسية تؤرّخ لمرحلة كاملة وتعيد النقاش إلى معادلة جوهرية: الملكية + ديمقراطية حقيقية = استقرار، والملكية + انتخابات شكلية = خطر العزوف والفوضى.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version