الرباط ليست مجرد عاصمة إدارية، بل واجهة تُعرض فيها صورة المغرب على الداخل والخارج.
لذلك، لا يثير الاستغراب أن يتحول شارع محمد السادس إلى ورش ضخم للتوسعة والتأهيل استعداداً لمونديال 2030.
لكن ما يثير الاستغراب حقاً هو أن يتحول ملف نزع الملكية إلى ما يشبه مرآة مكشوفة لمنطق إدارة العقار العمومي والخاص في المغرب: عقار يُسلب بثمن بخس، ثم يُعاد تسويقه بأضعاف مضاعفة.
قرابة 300 أسرة فوجئت بقرارات الإفراغ، مع تعويض لا يتجاوز 100 درهم للمتر المربع.
رقم يبدو في ظاهره قانونياً باعتباره “تقديراً إدارياً”، لكنه في جوهره بعيد كل البعد عن القيمة السوقية الحقيقية التي تتجاوز 40.000 أو 50.000 درهم.
هنا يكمن السؤال الاقتصادي الحارق: من المستفيد من هذه الفجوة الهائلة بين السعر الرسمي والسعر الواقعي؟
الملف يذكّر بالمعادلة القديمة الجديدة: العقار في المغرب ليس مجرد ملكية، بل آلية لإعادة توزيع الثروة بشكل غير متكافئ.
فالدولة أو الجماعات الترابية تُعوّض المتضررين بمبالغ زهيدة تحت غطاء “المنفعة العامة”، بينما تتحول الأراضي نفسها، بعد بضع سنوات، إلى مشاريع مربحة لشركات عقارية أو مؤسسات مالية.
بمعنى آخر: الأرض تُباع مرتين، مرة بثمن بخس لصاحبها الأصلي، ومرة أخرى بثمن فلكي في السوق العقاري.
هذا النمط من التدبير يطرح أسئلة سياسية قبل أن يكون مجرد ملف عقاري.
لأن نزع الملكية لا يصبح أداة لتوسيع الطرق فحسب، بل أيضاً آلية لإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للمدن الكبرى.
بينما تتباهى العاصمة بمشاريعها الكبرى، يعيش سكان الأحياء الهامشية في الرباط وسلا وتمارة على وقع خصاص في أبسط الخدمات: الماء، الصحة، النقل.
المفارقة أن الملايير تُصرف على التوسعة والتزيين استعداداً للأحداث الدولية، بينما يرحَّل سكان عاشوا في قلب العاصمة إلى ضواحي بعيدة لا تصلها وسائل النقل العمومي ولا البنيات التحتية الأساسية.
إنها صورة مكثفة لما يسميه الخبراء “المغرب بسرعتين”: سرعة استثمارات كبرى موجّهة للواجهة، وسرعة ثانية بطيئة يعيشها المواطن العادي، حيث الحق في السكن الكريم والماء والتعليم يتحول إلى رفاهية مؤجلة.
التوسعة في شارع محمد السادس ليست معزولة عن منطق الصفقات العمومية.
فالتقديرات الأولية للأشغال تتحدث عن مبالغ ضخمة تتجاوز مئات الملايين، موجهة لشركات بناء وهندسة مختارة عبر طلبات عروض.
لكن في مقابل هذه الملايير، لا يجد السكان سوى 100 درهم للمتر.
هذا التناقض يفتح الباب أمام سؤال جوهري: هل مفهوم “المنفعة العامة” يُطبّق بعدالة؟
أم أنه يتحول إلى أداة تقنية لتبرير نقل الثروة من الفئات البسيطة إلى مقاولات العقار ومكاتب الدراسات؟
لا أحد ينكر أن المغرب في حاجة إلى تحديث عاصمته وتجهيز بنياته لاستقبال ضيوف المونديال.
لكن الملف يكشف أن الرهان ليس فقط على الملاعب والطرق، بل على مدى قدرة الدولة على احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
لأن العالم سيرى الواجهات المضيئة، لكن سيقرأ أيضاً قصص السكان الذين تم إبعادهم بثمن لا يكفي حتى لاقتناء غرفة في الهامش.
قضية 100 درهم للمتر ليست مجرد رقم، بل عنوان على اختلال أعمق: كيف تتحول السياسات العمرانية إلى أداة لإنتاج التفاوتات بدل تقليصها.
وبينما تتأهب الرباط لتقديم صورتها المثالية للعالم، يظل سؤال العدالة الاقتصادية والاجتماعية معلقاً: أي مدينة نريد؟ مدينة تُبنى بالخرسانة والصفقات، أم مدينة تُبنى بالإنصاف والإنسان؟