الجميع يعرفه، لكن لا أحد يجرؤ على ذكر اسمه.
آثاره مطبوعة في كل رقم من أرقام الميزانية، وفي كل مشروع يعلن أو صفقة توقّع، لكن حضوره يظل في الظل.
إنه العرّاب، رجل الظل الذي لا يحتاج إلى كرسي انتخابي ولا إلى حملة انتخابية، لأنه ببساطة هو الذي يقرر كيف تُصرف ميزانية البلاد.
الانتخابات لا تعنيه.
الأحزاب قد تربح أو تخسر، الأغلبيات تتغير، التحالفات تتشكل وتتفكك، لكن مكان العرّاب ثابت لا يتزحزح.
في الوقت الذي تنشغل فيه الحكومة بمناقشة الأولويات تحت قبة البرلمان، يكون هو قد حدد فعلياً أي قطاع يُغذّى بالموارد وأي ورش يُترك للجفاف.
هو الذي يقرر إن كانت الفلاحة ستحصل على دعم إضافي، أو إن كانت الطاقة ستنال مليارات جديدة، أو إن كان العقار سيُفتح على استثناءات أخرى.
الأمر لا يقتصر على القطاعات.
كل المشاريع الكبرى – من المونديال 2030 بملاعبه وطرقه وفنادقه ومطاراته، إلى الصناديق السوداء التي لا تخضع للمساءلة – تمر عبر عينه.
العرّاب يعرف أن المال العام ليس مجرد أرقام في قانون المالية، بل هو أداة حكم بامتياز.
فالموارد التي توجَّه هنا وهناك ليست فقط قرارات تقنية، بل رسائل سياسية دقيقة، تُوزع من خلالها الولاءات وتُرسم بها الخريطة الخفية للسلطة.
رجل الظل حاضر في كل محطة، حتى وإن لم يذكر اسمه.
حين يرصد المجلس الأعلى للحسابات اختلالات في الصفقات العمومية، أو حين تكشف التقارير عن أموال غير مبررة في دعم الأحزاب، أو حين يحتج المواطنون على غياب الماء والمستشفيات، يكون الخيط الخفي واحداً: القرار المالي الذي مرّ عبر يد العرّاب.
المفارقة أن المواطن البسيط، وهو يسمع خطابات عن العدالة الاجتماعية والإنفاق على التنمية، لا يعرف أن هذه الميزانية التي تُعرض في البرلمان ليست سوى نصف الحقيقة.
النصف الآخر يُدار بعيداً عن النقاش العمومي، في كواليس لا تطالها المساءلة.
هنا يكمن العرّاب: لا حزب يحميه، ولا صندوق انتخابي يقلقه، لأنه يعرف أن الشرعية الحقيقية تأتي من تحكمه في المال العمومي.
المطارات التي تُوسّع استعداداً للمونديال، الملاعب التي تُبنى، الطرق التي تُعبد، الموانئ التي تُحدث… كلها أوراش تتطلب مليارات.
لكن السؤال الذي لا يطرح علناً: من يقرر أي الشركات تُمنح هذه العقود؟ ومن يراقب كيف تُصرف هذه الاعتمادات؟
القانون قد يُكتب بدقة، لكن التنفيذ يُدار بلمسة العرّاب.
إن خطورة هذا الوضع لا تكمن فقط في غياب الشفافية، بل في تكريس نموذج حكم مزدوج: ميزانية معلنة للواجهة، وميزانية فعلية تُصرف في الخفاء.
الأولى تُناقش تحت الأضواء، والثانية تُدار في الظل.
وهنا يبرز العرّاب، وحيداً في مكانه، لا ينافسه حزب ولا تحاسبه مؤسسة، لأنه ببساطة يمسك بالخيط الذي يربط السلطة بالثروة.
وفي النهاية، يظل السؤال معلقاً: هل الديمقراطية مجرد لعبة مقاعد، بينما القرار الحقيقي يظل في يد رجل لا يُنتخب ولا يُحاسب؟
إنها المفارقة الكبرى: في بلد تُنفق فيه الملايير على الانتخابات والبرامج والشعارات، يبقى العرّاب هو صاحب القرار الأخير… لأنه ببساطة هو الذي يقرر كيف تُصرف الميزانية.
ها المقال لصوبت حبيبة