من يقرأ التقرير السنوي الأخير لمجلس المنافسة يخرج بانطباع واضح: الوصفة جاهزة، الأزمة معلومة، والحل مكتوب سلفاً. المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب غارق في ديون تراكمت لعقود، والقطاع الخاص هو “المخلّص” المنتظر.
لكن خلف هذا التشخيص المحاسباتي، يلوح سؤال جوهري: هل نحن أمام خطة إصلاح فعلي للمنظومة، أم مجرد محطة جديدة في مسار دفع المرفق العمومي نحو الخوصصة المقنّعة؟
النموذج المقترح من طرف المجلس يقوم على تقسيم الديون إلى فئات، إعادة هيكلتها، ثم فصل مهام المكتب بين نقل استراتيجي يبقى في يده، وتوزيع وإنتاج يُسلمان تدريجياً للقطاع الخاص والشركات الجهوية متعددة الخدمات.
على الورق، يبدو الأمر منطقياً. لكن حين نضعه في سياق التجارب السابقة، تتضح الصورة: الصحة، النقل الحضري، التعليم… كلها قطاعات دخلت إليها الخوصصة تحت شعار “الإصلاح”، والنتيجة كانت تكاليف أثقل على المواطن وخدمات لا ترقى إلى مستوى الحق الدستوري.
المكتب الوطني لم يسقط صدفة. السياسات العمومية هي التي كبّلته:
أسعار مجمّدة بقرارات حكومية لاعتبارات اجتماعية، من دون تعويض مالي حقيقي.
استثمارات غير متناسبة مع موارده، خاصة في وسائل إنتاج مكلفة.
التزامات مالية لصندوق التقاعد تضاعفت عشر سنوات متتالية.
اليوم، بدل فتح نقاش سياسي حول هذه الاختلالات ومحاسبة المسؤولين عنها، يتم تقديم “الحل” في شكل تفويت تدريجي لنشاطي الإنتاج والتوزيع. النتيجة المتوقعة: المواطن يؤدي ثمن الديون الماضية على شكل فواتير مستقبلية.
الخطير في المقترح هو تغييب البعد الاجتماعي. الماء والكهرباء ليسا سلعة عابرة، بل حق دستوري وشرط أساسي للحياة الكريمة. وإذا كان منطق السوق هو الذي سيحكم هذا الحق، فمن سيضمن للقروي أن الشبكة الضعيفة في دواره لن تُترك لعجزها البنيوي؟ ومن سيضمن للمدن أن الفواتير لن تتضاعف كما وقع في تجارب التدبير المفوض؟
إن الأزمة ليست تقنية بقدر ما هي سياسية. المطلوب ليس تفكيك المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، بل إصلاح حكامته، فرض الشفافية على صفقاته، وإعادة توزيع عبء الدعم بين الدولة والمواطن بطريقة عادلة.
أما تحويل الأزمة إلى فرصة لخوصصة قطاع حيوي، فهو وصفة قصيرة المدى، لكن كلفتها البعيدة ستؤديها الأسر الفقيرة والمتوسطة.
الخلاصة أن تقرير مجلس المنافسة قدّم عملية جراحية دقيقة، لكن الجراح (الحكومة) هو الذي سيقرر: هل الهدف إنقاذ المرفق العمومي أم بيع أوراقه بالتقسيط؟