منذ ستينيات القرن الماضي، صار البنك الدولي أحد أبرز المموّلين لميزانية الدولة المغربية. علاقة ظاهرها الدعم والتمويل، وباطنها ديون وإصلاحات تملي مسارات اقتصادية واجتماعية قد لا تكون دائماً من اختيار البلد. فالقرض ليس هدية، بل عقد طويل الأمد: أموال تدخل خزينة المملكة باليمين، مقابل شروط وإصلاحات تخرج من جيب المواطن باليسار.

القروض تُسجَّل في قانون المالية كـ”موارد خارجية”. جزء منها يُوجَّه لتغطية العجز المزمن: أجور الموظفين، دعم المواد الأساسية، وتكاليف التسيير.

جزء آخر يُخصَّص لمشاريع محددة كالسدود والطرق ومحطات تحلية المياه.
أما الجزء الثالث فيأتي مرفوقاً بما يسمى “الإصلاحات الهيكلية”، التي تطال ملفات حساسة كالتقاعد، الحماية الاجتماعية، أو تحرير الأسواق.

لكن ما يدخل كأرقام يخرج كالتزامات. فالدولة مطالَبة بسداد أصل الدين مضافاً إليه فوائد تبدو صغيرة نسبياً (2 أو 3 في المائة)، لكنها عبر عقدين تتحوّل إلى مليارات.
وهكذا يصبح بند “خدمة الدين العمومي” ثقلاً دائماً في كل قانون مالية، يلتهم من ميزانية الصحة والتعليم أكثر مما يضيف إليها.

الثمن الحقيقي لا يُقاس فقط بالمال، بل بالشروط غير المكتوبة. رفع الدعم عن المحروقات في 2015 لم يكن قراراً سيادياً خالصاً، بل جزءاً من وصفة أوصى بها البنك الدولي وصندوق النقد. الإصلاحات التي مسّت التقاعد، الضرائب الجديدة، تقليص الإنفاق الاجتماعي… كلها جاءت مرتبطة مباشرة بقروض تحت عنوان “مساعدة على الإصلاح”.

وسط هذا السياق، يطلّ مونديال 2030 كعنوان جديد للاستدانة. التقديرات تشير إلى أنّ المغرب يحتاج ما بين 4 و5 ملايير دولار لتأهيل الملاعب والبنيات التحتية.
جزء من هذه الكلفة سيُغطّى من الميزانية العامة، لكن الجزء الأكبر لن يجد طريقه إلا عبر القروض.
وهنا يبرز خطر “الأفيال البيضاء”: ملاعب فخمة ستُستعمل لأسابيع معدودة، ثم تتحول إلى عبء للصيانة، تماماً كما حدث في جنوب إفريقيا 2010 والبرازيل 2014، حيث تركت البطولات ملاعب ضخمة فارغة ومكلفة.

في المقابل، يعيش المغرب خصاصاً فاضحاً في المدارس القروية، المستشفيات الجهوية، والمرافق الصحية الأساسية. أي منطق يقبل أن نرهن الأجيال القادمة بديون جديدة من أجل 90 دقيقة كرة، بينما المريض ينتظر موعد عملية لشهور، والتلميذ يدرس في أقسام مكتظة؟

لا أحد ينكر أن القروض قد تكون أحياناً ضرورية لتمويل مشاريع استراتيجية. لكن الإشكال يبدأ حين تُوجَّه الأموال لتجميل الصورة الخارجية بدل تحسين العيش الداخلي.
تمويل السدود والطاقات المتجددة مختلف عن تمويل ملاعب المونديال: الأول استثمار طويل الأمد، والثاني عبء رمزي قصير الأمد.

الخلاصة أنّ القرض ليس مجرد أموال تُحوَّل إلى حساب الدولة. هو عقد طويل الأمد، فيه بند مالي يُسدَّد بالأقساط، وبند سياسي يُسدَّد على حساب القرار السيادي والطبقات الوسطى والفقيرة. والمونديال نفسه قد يصبح مرآة لهذه المفارقة: ديون تُسجَّل باسم التنمية، وتُصرف في ملاعب، بينما التنمية الحقيقية تظل مؤجلة.

فلوس تدخل باليمين… وتخرج بشروط اليسار.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version