منذ ما يقارب عقدين من الزمن، يجلس مصطفى التراب على قمة المكتب الشريف للفوسفاط (OCP)، في موقع أقرب إلى “عرش اقتصادي” لا يتزعزع. فمنذ تعيينه سنة 2006 رئيساً مديراً عاماً، ظل الرجل ثابتاً في مكانه، بينما تعاقبت الحكومات، تبدلت الأغلبية والمعارضة، تغيّر الوزراء والبرلمانات، لكن التراب بقي كأنه خارج الزمن السياسي المغربي.

مصطفى التراب وُلد سنة 1955، ودرس الهندسة في مدرسة البوليتكنيك بفرنسا، ثم حصل على دكتوراه في الهندسة الاقتصادية من جامعة MIT الأمريكية. بدأ مساره في البنك الدولي حيث راكم خبرة دولية، ثم عاد إلى المغرب ليتولى مهام عليا، أبرزها إدارة الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات سنة 1998، حيث أشرف على تحرير سوق الاتصالات وإدخال المنافسة. نجاحه هناك قرّبه من دوائر القرار الاقتصادي، قبل أن يتم استدعاؤه لقيادة الفوسفاط سنة 2006.

حين وصل التراب إلى قمة المكتب الشريف للفوسفاط، لم يكن مجرد مدير تقني، بل رجل رؤية. وضع استراتيجية جديدة تقوم على ثلاث ركائز: التحويل الصناعي عبر الانتقال من تصدير الخام إلى إنتاج الأسمدة ومشتقات الفوسفاط ذات القيمة المضافة. التوسع العالمي بجعل OCP فاعلاً رئيسياً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. الاستثمار المكثف بضخ عشرات المليارات في مشاريع جديدة، بتمويل ذاتي وبالاعتماد على البنوك الوطنية والدولية.

النتيجة أن OCP تحوّل إلى عملاق عالمي يسيطر على أكثر من 30% من سوق الأسمدة، ويُعتبر اليوم ثاني أكبر مُصدّر للفوسفاط في العالم. لكن خلف هذه النجاحات يظل سؤال المساءلة قائماً: كيف يعقل أن يبقى رجل واحد في منصب حساس منذ 2006، دون أن يجرؤ أحد على مساءلته أو حتى التفكير في إزاحته؟ هل يُعقل أن المغرب، وهو بلد يزخر بالكفاءات، لا يملك بديلاً قادراً على قيادة هذه المؤسسة؟ أم أن المسألة تتجاوز المؤهلات لتتحول إلى عروش لا يقترب منها أحد؟

منذ 19 سنة، لم يُطرح ملف OCP بشكل شفاف أمام البرلمان. ما يصل للرأي العام لا يتعدى بلاغات رسمية وأرقام عملاقة عن المداخيل والاستثمارات. لكن أين التفاصيل الدقيقة حول الأرباح التي تعود إلى خزينة الدولة؟ أين الأرقام الحقيقية للديون؟ ومن المستفيد من الصفقات الكبرى التي تبتلع مليارات الدراهم؟

إنشاء فرع Nutricrops سنة 2022، ونقل أصول صناعية ضخمة تفوق 30 مليار درهم إلى ملكيته، لم يبدد الغموض بل زاده. التراب يصرّ أن المكتب “غير قابل للخصخصة”، لكن هذه الهندسة المالية أعطت انطباعاً أن الباب الخلفي مفتوح لخصخصة صامتة، حيث تتحول “الوطنية الاقتصادية” إلى شعار يخفي لعبة مسارات معقدة.

الخوف الحقيقي أن الخصخصة ليست دائماً قراراً معلناً، بل قد تكون ممارسة مقنّعة تمر عبر مسارات مالية معقدة. التراب لم يعد مجرد مدير عام، بل رمزاً لنمط اقتصادي يقوم على “رجال أقوياء” يحتكرون مواقع استراتيجية لعقود طويلة. وجوده على رأس OCP يعكس معادلة خاصة: الدولة تحتفظ بالملكية الرمزية للفوسفاط، بينما الإدارة اليومية توكل لرجل تقنوقراطي يحوز الشرعية الدولية والكفاءة التقنية، لكنه يظل بعيداً عن أي مساءلة شعبية أو برلمانية.

الخطر في المعادلة نفسها: حين تتحول مؤسسة وطنية بحجم OCP إلى مجال مغلق تحت قيادة شخص واحد لسنوات طويلة، تصبح الثروة الوطنية رهينة لرؤية فردية لا تخضع لنقاش عمومي ولا لرقابة فعلية. واخا التراب يصرّ على أن OCP “غير قابل للخصخصة”، تبقى الحقيقة الأعمق أن الخصخصة ليست دائماً إعلاناً رسمياً، بل قد تكون ممارسة مقنّعة تمرّ عبر مسارات مالية غامضة. ومن هنا، يظل السؤال قائماً، بل أكثر إلحاحاً: من يحاسب مصطفى التراب، الرجل الذي يجلس منذ 19 عاماً على عرش الفوسفاط المغربي؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version