لم يعد المشهد الصحي في المغرب يحتاج إلى مزيد من البلاغات والدوريات، بل إلى جرأة إصلاح حقيقية تضع المريض في قلب المنظومة.
ومع ذلك، اختار وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، أن يرد على الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة بدورية محاسباتية لا تختلف في جوهرها عن دفتر تاجر يصفّي حساباته مع الزبناء.

فبينما تتناثر صرخات الغضب في مدن كبرى وصغرى، احتجاجاً على غياب الخدمات الصحية الأساسية وتهالك المستشفيات العمومية، جاء الوزير ليحدّثنا عن صرف التعويضات المتأخرة للأطر الصحية، وعن كاميرات المراقبة وحراس الأمن، وعن تقارير إدارية تُرفع بالصيغة القانونية.
وكأن القضية لا تتعلق بمستقبل الصحة العمومية، بل بميزانية تسييرٍ ضاقت دوائرها.

الدورية الأخيرة لم تحمل أي رؤية لإصلاح قطاع ينزف منذ عقود. لم تتحدث عن أزمة البنيات التحتية، ولا عن خصاص الأطباء والممرضين، ولا عن ضعف التجهيزات الطبية، ولا حتى عن مآسي المرضى الذين يموتون يومياً في ممرات المستشفيات أو على قارعة الطريق وهم يبحثون عن علاج مستعجل.
الوزير اختزل كل شيء في معادلة بسيطة: “وفّروا حماية لمهنيي الصحة، وصرفوا التعويضات في وقتها”.
إنها عقلية التاجر الذي يعتقد أن تسوية الفواتير كافية لإطفاء الحريق.

المواطن الذي خرج للاحتجاج لم يطالب بتعويضات لمهنيي الصحة، ولم يهتم بعدد الحراس في أبواب المستشفيات.
مطلبه كان واضحاً: مستشفى يليق بكرامته، دواء متوفر، طبيب حاضر. لكن الوزير فضّل أن يرد على جزء من الأزمة يخص الأطر، ويترك الجرح المفتوح الذي ينزف يومياً: انهيار ثقة المواطنين في المنظومة الصحية برمتها.

في المدن الصغرى، المستشفيات لا تختلف عن بنايات مهجورة. في القرى، النساء يضعن مواليدهن على الطريق إلى أقرب مركز صحي.
وفي المدن الكبرى، المراكز الجامعية تستقبل أعداداً تفوق طاقتها بأضعاف، فيما آلاف الأسر ترهن مستقبلها لتمويل علاج خاص بعدما أصبح العلاج العمومي مجرد واجهة باهتة.

المثير في الدورية أن الوزير شدّد على عدم التنازل عن المتابعات القضائية ضد المعتدين على الأطر الصحية.
وهي خطوة مفهومة، لكنها تكشف انزياح النقاش نحو علاقة الإدارة بموظفيها، بدل العلاقة الجوهرية بين المنظومة والمجتمع. فهل يحق للوزير أن يقدّم نفسه كمدافع عن “شرف المهنة” بينما شرف الصحة العمومية مهدر يومياً؟

إن أي إصلاح حقيقي للقطاع لا يمكن أن يختزل في صرف تعويضات أو نصب كاميرات.
الإصلاح يبدأ من الاستثمار في البنيات الأساسية، من إعادة الاعتبار للمستشفى العمومي، ومن اعتبار الحق في الصحة جزءاً من العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.

الدورية الأخيرة كشفت مرة أخرى أن الوزارة ما زالت تشتغل بمنطق المسكنات: حقن صغيرة لإسكات الغضب الآني، دون لمسة جراحية توقف النزيف الكبير.
لكن حين يتحوّل وزير الصحة إلى مجرد محاسب يسوي تعويضات موظفيه، تاركاً المواطن فريسة لردهات الانتظار وألم المرض، فإن السؤال الأكبر يطرح نفسه: هل لا تزال الصحة في المغرب خدمة عمومية أم أصبحت سلعة مؤجلة التسليم؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version