في الدبلوماسية كما في السياسة، هناك لحظات صغيرة تختصر عصوراً كاملة.
مشهد وزير العدل عبد اللطيف وهبي وهو يقبّل رأس عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، خلال احتفال السفارة السعودية بالرباط، لم يكن مجرد لقطة بروتوكولية عابرة. بل كان حدثاً رمزياً عميق الدلالة، يفضح هشاشة الخطاب السياسي المغربي، ويكشف عن حدود اللعبة الحزبية التي طالما وُصفت بأنها مجرد “مسرح” لا أكثر.

تاريخ الرجلين مثقل بالعداوة السياسية. بنكيران لم يتوقف عن مهاجمة وهبي، واعتبره رمزاً لفشل الحكومة، بل دعا صراحة إلى استقالته ومتابعته.
وهبي من جهته لم يوفّر بنكيران من تصريحاته النارية، واتهمه بالازدواجية والشعبوية. الخلاف كان يوصف أحياناً بـ“المستعصي”، وظهر كأنه صراع بين مشروعين متناقضين: إسلامي شعبوي في مواجهة ليبرالي متحالف مع السلطة.
لكن كل ذلك انهار في لحظة “حنان سياسي” أمام عدسات الكاميرات. قبلة رأس واحدة بدت وكأنها تُعيد كتابة التاريخ، وتضع المواطن أمام سؤال صادم: هل كان كل ذلك التراشق مجرد أدوار في مسرحية طويلة؟

في الديمقراطيات الناضجة، يمكن أن يختلف السياسيون بحدة، لكنهم يلتزمون بخطوط فاصلة واضحة بين الخصومة والودّ الشخصي.
في فرنسا مثلاً، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند تبادلا انتقادات قاسية، لكنهما لم يسمحا أبداً للودّ الاجتماعي أن يُفسر كتنازل سياسي.
في تونس، يمكن أن نرى خلافات مفتوحة بين النهضة وخصومها، لكن نادراً ما تختزل في عناق بروتوكولي يُبطل مفعول كل التصريحات السابقة. في المغرب، الأمر مختلف.
هنا، الخصومة تُعرض على أنها حرب وجود، تُسوّق للناس كأنها معركة حول الهوية والمصالح العليا.
لكن سرعان ما تُطوى حين يتطلب البروتوكول ذلك. النتيجة؟ شعور متنامٍ بأن السياسة لا تُدار بمنطق الأفكار، بل بمنطق “التقلب” و“النفاق”.

الثقة السياسية في المغرب أصلاً هشة. نسب المشاركة الانتخابية المتدنية، عزوف الشباب، ضعف الانخراط في الأحزاب… كلها مؤشرات على أزمة عميقة.
حين يرى المواطن أن خصمين لدودين بالأمس يتحولان إلى حلفاء في لحظة عابرة، فإنه يزداد اقتناعاً بأن السياسة ليست سوى لعبة فوقية، وأن ما يقال في البرلمان أو الإعلام مجرد كلام للاستهلاك. هذا الشعور له تبعات خطيرة: مزيد من العزوف الانتخابي، إذا كانت السياسة مسرحية، فما جدوى التصويت؟ تآكل الشرعية، حين تفقد المؤسسات الحزبية ثقة الناس، تتحول إلى هياكل فارغة بلا قاعدة اجتماعية.
انفجار الغضب الاجتماعي، الفراغ الذي تتركه السياسة يُملؤه الشارع بالاحتجاجات، كما شهد المغرب في محطات متعددة.

قبلة وهبي لبنكيران تختصر هذا التناقض الصارخ: سباب في النهار، أحضان في الليل.
خطاب يلهب البرلمان، وصور ودّية في الصالونات الدبلوماسية. المواطن يرى هذه التناقضات فيزداد اغتراباً.
فبدل أن تكون السياسة مجالاً لتصريف الصراع الاجتماعي بطريقة سلمية ومؤسساتية، تتحول إلى فرجة خالية من المعنى.

في الولايات المتحدة، حتى في أوج الحرب الكلامية بين ترامب وبايدن، يبقى لكل طرف هوية سياسية متماسكة، ويظل الخلاف قائماً في العمق.
المجاملات الشخصية لا تُفهم أبداً على أنها تنازل سياسي. في أوروبا، الخصومات الحزبية حقيقية لأنها تقوم على مشاريع متناقضة: اليمين مقابل اليسار، الليبراليون مقابل الخضر. قد يتصافح القادة، لكن القاعدة الشعبية تعرف أن الخلاف حقيقي. في المغرب، الخلافات تبدو أكبر من الواقع في الإعلام، لكنها سرعان ما تذوب في الصور الرسمية.
النتيجة أن المواطن يفقد أي ثقة في أن ما يُقال أمامه يعكس حقيقة الصراع.

المشهد الأخير ليس مجرد قبلة. إنه مرآة تعكس أزمة أعمق: أزمة الثقة.
وإذا استمرت النخب السياسية في لعب هذا الدور المزدوج، فإن مستقبل السياسة المغربية سيكون أمام سيناريوهات خطيرة: تفريغ المؤسسات، البرلمان والأحزاب يفقدان أي مصداقية، فيتحولان إلى ديكور دستوري بلا روح.
تفاقم العزوف، الانتخابات المقبلة قد تشهد نسب مشاركة متدنية غير مسبوقة، وهو ما يضع الشرعية الديمقراطية في مهب الريح. احتجاجات بلا وساطة، حين تغيب السياسة كقناة للتعبير، يبقى الشارع الخيار الوحيد، بما يحمله من مخاطر على الاستقرار.

قبلة وهبي على رأس بنكيران ليست مجرد لحظة عاطفية. إنها حدث سياسي كاشف، يُظهر أن اللعبة الحزبية في المغرب تقوم على أدوار ظرفية، وأن الصراع ليس حول المشاريع بل حول المواقع.
وهي أيضاً إنذار مبكر: الثقة الشعبية تتبخر، والمسرح السياسي يفقد جمهوره، والديمقراطية نفسها مهددة بأن تتحول إلى قشرة بلا مضمون. لقد كانت لحظة صغيرة، لكنها تختصر مأساة كبيرة: حين تتحول السياسة إلى مسرح، يصبح المواطن آخر من يصدّق العرض.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version